التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً
٦٦
وَإِذاً لأَتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً
٦٧
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٦٨
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً
٦٩
ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً
٧٠
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ... } الآية.
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لو كانت علينا نزلت يا رسول الله، لبدأت بنفسي وأهل بيتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ذَاكَ لفَضْلِ يَقِينِكَ عَلَى يَقِينِ النَّاسِ، وَإِيمَانِكَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ" .
وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رجل من الأنصار: والله، لو كانت علينا لقتلنا أنفسنا، فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لَلإِْيمَانُ أَثْبَت فِي صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي" .
وقيل: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ... } الآية: هم يهود [تغنا العرب] كما أمر أصحاب موسى، عليه السلام.
وقيل: قال عمر - رضي الله عنه - ونفر معه: والله لو فعل ربنا لفعلنا، فالحمد لله الذي لم يجعل بنا ذلك، فقال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم:
"لَلإِْيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي" .
ثم اختلف في قتل الأنفس.
قال بعضهم: هو أن يقتل كلٌّ نفسَهُ.
وقال آخرون: هو أن يأمر أن يقتل بعض بعضاً، وأما قتلُ كلٍّ نفسَهُ فإنه لا يحتمل لوجهين:
أحدهما: وذلك أنه عبادة شديدة مما لا يحتمل أحد؛ كقوله - تعالى -:
{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] أخبر أنه لا يكلف ما لا طاقة له.
والثاني: أن فيه قطع النسل وحصول الخلق للإفناء خاصة، وذلك مما لا حكمة في خلق الخلق للإفناء خاصة.
وقوله - عز وجل -: { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ }، قيل: هو عبد الله بن مسعود، وعمار، وفلان، وفلان - رضي الله عنهم - ولا ندري أيصح أم لا؟ ولو كان قوله - تعالى -: { أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } قتل بعض بعضاً فذلك ما أمروا به بمجاهدة العدو، والإخراج من المنزل، والهجرة، ثم أخبر أنهم لا يفعلون ذلك إلا قليل منهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } يحتمل هذا وجهين:
لو فعلوا ما يؤمرون به من الإسلام والطاعة لكان خيراً لهم من ذلك.
ويحتمل: لو أنهم فعلوا ما يؤمرون به من القتل لو كتب عليهم، لكان خيراً لهم في الآخرة، { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } قيل: حقيقة.
وقيل: تحقيقاً في الدنيا.
وقيل: ما يوعظون به من القرآن.
{ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } في دينهم.
{ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } يعني: تصديقاً بأمر الله.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذاً لأَتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً } يحتمل وجهين:
الأجر العظيم في الآخرة.
ويحتمل: في الدنيا؛ كقوله:
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [الليل: 7].
وقوله: { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }، فهو الهادي للعباد إلى الطريق المستقيم.
وقيل: تثبيتا لهم في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ... } الآية.
قيل في بعض القصة:
"إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قال: والذي لا إله غيره لأنت أحبّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي، وإني لأذكرك، فلولا أني أجيء فأنظر إليك، لرأيت أني سأموت، وذكرت موتي وموتك، ومنزلتك في الجنة ترفع مع النبيين، فإني وإن أدخلت الجنة كنت دون ذلك، وذكرت فراقي إياك عند الموت، فبكيت لذلك. فما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ فأنزل الله - تعالى -: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ... } [الآية]، فقال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم: [أَبْشِرْ يَا أَبَا فُلاَنٍ، أَنْتَ مَعِي فِي الجَنَّةِ، إِنْ شَاءَ اللهُ" وروي] "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على بعض أصحابه، فرأي بوجوههم كآبة وجزعاً، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا لَكُمْ؟ وَمَا غَيَّرَ وُجُوهَكُمْ وَلَوْنَكُمْ؟ فقالوا: يا رسول الله، ما بنا من مرض ولا وجع، غير أنا إذا لم نرك ولم نلقك اشتقنا إليك، واستوحشنا وحشة شديدة حتى نلقاك، فهذا الذي ترى من أجل ذلك، ونذكر الآخرة فنخاف ألا نراك هناك؛ فأنزل الله - تعالى - { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ... }" الآية.
ويحتمل: أن لم يكن في واحد من ذلك، ولكن في وجوه آخر.
أحدها: أن اليهود، وغيرهم من الكفرة، والذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفرطوا في تعنتهم وتمردهم في ترك إجابتهم إياه، وطاعتهم له - ظنوا أنهم وإن أسلموا وأطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل ذلك منهم توبتهم، ولم ينزلوا منزلة من لم يؤذه، ولم يترك طاعته، فأخبر - عز وجل -: أنه إذا أطاع الله والرسول فيكون: { مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } كأن لم يترك طاعته أبداً - والله أعلم - كما قال - تعالى -:
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38].
ويحتمل: أن يكون ذلك لما سمعوا أن لكل أحد في الجنة مثل الدنيا فظنوا ألا يكون لهم الاجتماع والالتقاء؛ لبعد بعضهم من بعض، فأخبر - عز وجل - أن يكون لهم الاجتماع؛ لأن ذلك لهم في الدنيا من أعظم النعم وأجلها.
ويحتمل: أن يكون على الابتداء: أن من أطاع الله - تعالى - والرسول صلى الله عليه وسلم فيكون { مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ }] في دار واحدة، لا يكونون في غيرها؛ فهذه الوجوه كأنها أشبه - والله أعلم - إذ هم بالطاعة أجابوا، والله أعلم.
ثم اختلف في { وَٱلصِّدِّيقِينَ }؛ قال بعضهم: أتباع الأنبياء - عليهم السلام - وخلفاؤهم في كل أمر من التعليم، والدعاء لهم إلى كل خير وطاعة.
وقيل: الصديق: هو الذي يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في أول دعوة دعاه إلى دين الله - تعالى - وفي أول ما عاينه.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلشُّهَدَآءِ } قيل: الشهيد: الذي قتل في سبيل الله.
وقيل: الشهيد: هو القائم بدينه.
وقيل: الصديقون والشهداء والصالحون كله واحد.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } دلت الآية على أن الجزاء إفضال من الله - تعالى - إذ قد سبق من عنده الإنعام والإفضال عليهم؛ فيخرج طاعتهم له مخرج الشكر له، لا أن عليه ذلك وأن الجنة لا يدخل فيها إلا برحمته وفضله.
وقوله: - أيضاً - { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } أي: ذلك الإنعام الذي أنعم عليهم فضل من الله.
ويحتمل قوله: { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } أي: ما أحسن من الرفقة بينهم؛ فذلك فضل منه.
والآية ترد على أصحاب الأصلح؛ لأن تلك الأفعال إنما صارت قربة لله بإنعام من الله وإفضاله وتوفيقه، وبه استوجبوا الثواب.
وقوله - تعالى أيضاً -: { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } بعد العلم بأن الفضل هو بذل ما لم يكن عليه، وبذل ما عليه هو الوفاء، لا الفضل في متعارف اللسان والمعتاد.
ثم لا يخلوا من أن يرجع منه إلى الخيرات التي اكتسبوها؛ فيبطل به قول المعتزلة بما لا يخلو من أن كان منه ذلك الفضل أو مثله إلى الكافر أولى، فإن كان منه لم يكن للامتنان منه بالذي كان منه وجه يستحقه، وقد كان منه إلى غيره، فلم ينل تلك الدرجة، ولا بلغ تلك الرتبة؛ فبان أنه لا بذلك بلغ من بلغ، فيكون منه فيما لم يكن.
وأيضاً: إنه لو لم يكن معه ذلك عنهم لم يكن البذل فضلا لما ذكرت؛ ثبت أن ليس الحق عليه كل ما به الأصلح في الدين؛ لما يزيل معنى الفضل، وإن لم يكن إعطاء الكافر مثله فهو عندهم محاباة منه على المؤمن، وقد منع بعض ما عليه في الأصلح، وذلك عندهم بخل، جل الله عما وصفوه.
وإن كان ذلك في الثواب دل أن له أن يثيب حتى يصير ما أثاب عليه فضلا، ولا يحتمل ألا يرضى بطاعة العبد واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فثبت أن الرضا ليس هو المراد، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } قيل: عليماً بالآخرة وثوابها.
وقيل: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } بما وعد من الخير في الآخرة لهؤلاء الأصناف.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: الصديقون هم [الذين أدركوا الرسل - عليهم السلام - وصدقوهم.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: الصديقون هم المؤمنون.
وقيل الصديقون]: السابقون، الذين سبقوا إلى تصديق النبيين، أنعم الله عليهم بالتصديق، والشهداء: هم الذين أنعم الله عليهم بالشهادة.
والصالحون: هم المؤمنون أهل الجنة.