التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٢٤
هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٢٦
لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
٢٧
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
٢٨
-الفتح

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } مع كثرة أولئك، وقوتهم، وتأهبهم للقتال، وضعف هؤلاء وقلة عددهم؛ لأن أولئك كانوا خرجوا للقتال والحرب، مستعدين لذلك، متأهبين، وهؤلاء كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت، فكفّ أيدي أولئك مع عدتهم وقوتهم وكثرتهم عن هؤلاء مع ضعفهم وقلة عددهم، حتى أظفرهم بأولئك بما ذكر في القصة أن المسلمين كانوا اشتغلوا بالترامي بالنبل والحجارة حتى هزموهم وأدخلوهم بطن مكة؛ على ما ذكر، ثم أظفرهم بهم، كف أيدي هؤلاء عنهم ويتم لهم الظفر بهم؛ ليعلم هؤلاء أن التدبير في الأمر إلى الله - تعالى - دونهم، وله السلطان على الخلق جميعاً، لا سلطان لأحد في سلطانه، ولا قوة إلا بالله.
وأما ما ذكر من الامتنان هو ما ذكر من كف أيدي أولئك عن هؤلاء عند شدة خوفهم منهم وفزعهم بما ذكرنا من قوة أولئك [و]كثرتهم، وضعف هؤلاء وقلة عددهم، حتى أظفرهم؛ يذكر منته عليهم؛ ليستأدي شكره، ويكف أيدي هؤلاء عنهم.
فإن قيل: ما كف أيدي أولئك عن هؤلاء، المنة ظاهرة، ولكن أية منة تكون في كف أيدي المؤمنين عن أولئك الكفرة؟ فيقال: جائز أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أولئك الكفرة؛ ليستأدي منهم شكره بذلك، وهو الإسلام لله - تعالى - على جميع خلقه منة؛ ليستأدي منهم شكراً على الكافرين والمسلمين جميعاً.
ويحتمل أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أولئك على المؤمنين - أيضاً - هو ما ذكر على إثره: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أنه لو لم يكن يكف أيدي المؤمنين عنهم حتى يتم لهم الظفر بهم فدخلوا مكة وهنالك مؤمنون لأصابهم ما ذكر من المعرة وغيره، فكان في كف أيدي المؤمنين عن أولئك منة عظيمة عليهم؛ لما بينا من قبل من فيها من المؤمنين من غير علم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بِبَطْنِ مَكَّةَ } وهم لم يكونوا في بطن مكة، إنما كانوا بالحديبية، وبينها وبين مكة أميال، لكن يخرج على وجهين:
أحدهما: أظفرهم بهم وقهرهم وهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة، على ما ذكر أنهم هزموهم حتى أدخلوهم في بيوت مكة.
والثاني: ببطن مكة؛ أي: بقرب مكة.
وجائز أن يكنى ببطن مكة؛ أي: قربها.
وقال بعضهم: { بِبَطْنِ مَكَّةَ } أي: الحرم، والحرم كله مكة، والوجه فيه ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } لم يزل الله - تعالى - عالماً بأعمالهم، بصيراً.
وفيه دلالة خلق أفعالهم؛ لأنه ذكر أنه كف أيدي هؤلاء عن أولئك وأيدي أولئك عن هؤلاء، ثم قال: هو عالم بما تعملون بصيراً؛ ليعلم أن له في فعلهم صنعاً، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي: صدوهم عما قصدوا، وهو الطواف بالبيت والزيارة له، وذلك في المسجد الحرام؛ ذكر صدهم عن المسجد الحرام وصدوهم عما فيه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وقوله: { مَعْكُوفاً } أي: محبوساً، والمعكوف هو الحبس، ومنه سمي العاكف والمعتكف.
ثم قوله: { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } محل دم هدي المتعة هو مكة أو منى، فأما الحرم نفسه فليس هو محله؛ فكأنه قال: وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله الذي جعل لهدي المتعة وهو منى أو مكة؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان - عليه السلام - معتمراً، وذكر أنه كان متمتعاً، وفيه أن دم المتعة إن منع عن محله سقط، وخرج عن حكم المتعة، ويعود إلى مكة، وله أن يصرفه إلى ما شاء؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر تلك البدن التي ساقها عن الإحصار في الحرم؛ دل أن هدي المتعة إذا منع عن المحل سقط، ويخرج عن حكم المتعة.
وفيه أن دم الإحصار لا يجوز أن إراقته إلا في الحرم؛ إذ الحديبية تجمع الحرم والحل جميعاً عندنا، فإنما كان نحرها في الحرم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ } أي: تقتلوهم وتهلكوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: لولا ما فيها - أعني: في مكة - من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، لأتم لكم الظفر بهم، ودخلتم عليهم، لكن منعكم عن دخولكم مكة؛ لما ذكر.
ثم اختلف في قوله - تعالى -: { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ }.
قال بعضهم: لزمكم الدية بقتلهم، وكذا روي عن محمد بن إسحاق.
وقال بعضهم: الكفارة.
وقال بعضهم: الإثم والذنب؛ أي: يصيبكم منهم الإثم بقتلكم إياهم؛ وهذا لا يحتمل؛ لأنهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون، لا يلحقهم الإثم والذنب؛ لأن الله - تعالى - وضع الإثم عنا فيما لا نعلمه، ولم يضع طريق العلم به، قال الله - تعالى -:
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [الأحزاب: 5].
وعندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: فيصيبكم من الكفرة وأهل النفاق ما يسوءكم بقتلكم إياهم من اللائمة، والتعيير، وغير ذلك من القيل والقال؛ يقولون: إنهم قتلوا أصحابهم ومن كان على دينهم من أهل الإسلام؛ فيجدون بذلك سبيلا إلى ما ذكرنا، فيسوءكم ذلك، والله أعلم.
والثاني: يصيبكم الأسف والحزن والندامة الدائمة بقتلكم أهل الإيمان وأهل الإسلام إذا علمتم أنكم قتلتم أصحابكم وأهل دينكم، والله أعلم.
ثم المخالف لنا تعلق بهذه الآية في مسألتين:
إحداهما: فيمن أسلم ولم يهاجر إلينا: أنه تجب الدية في قتله؛ لقوله - تعالى -: { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وهي غرم الدية.
والثانية: هل يباح الرمي على حصون المشركين إذا كان فيها أسارى المسلمين وأطفال المسلمين، وإحراق الحصون أو الرمي على الكفار الذين تترسوا بأطفال المسلمين؟
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري: لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى المسلمين وأطفالهم، ولا بأس بأن يحرقوا الحصن ويقصدوا به المشركين دون المسلمين، وكذلك إحراق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين.
وقال مالك: لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين.
وقال الأوزاعي: إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين، لم يرموا، ولا يحرق الحصن، ولكن لا بأس بأن يرمى الحصن بالمنجنيق، ونحو ذلك.
وقال الشافعي: لا بأس بأن يرمى الحصن وفيه أسارى وأطفال المسلمين، ولو تترسوا بهم فله قولان.
واحتج هؤلاء [بأن] من عادتهم أنهم كانوا يعبدون ما يهوون ومالت إليهم أنفسهم من الأصنام والأوثان وغيرها، وينصرون من عبدوها، ويدفعون عنهم فيذبون عنها، فجائز أن يكون الذي حملهم على ذلك هو نصرهم أولئك الأصنام وعبادها، والذب عنهم حمية الجاهلية، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } جائز أن يكون ما ذكر من السكينة التي أخبر أنه أنزلها على رسوله ومن ذكر: هو شيء أنزله من السماء؛ لطفاً منه عليهم حتى سكنت لذلك قلوبهم.
وجائز أن يكون لا على حقيقة إنزال شيء من مكان إلى مكان، ولكن أنشأ في قلوبهم ما يسكن به قلوبهم؛ كقوله - تعالى -:
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] أي: أنشأ لكم من الأنعام ما ذكر، وخلقها لهم، ليس أن أنزلها عليهم من مكان إلى مكان، ولكن على الإنشاء والخلق، فعلى ذلك الأول، والله أعلم.
ثم السكينة تحتمل أسباباً له بها تسكن قلوبهم وأنفسهم، والأسباب تختلف.
ويحتمل شيئاً آخر سوى ذلك، وهو اللطف الذي جعل لهم، فسكن قلوبهم بذلك اللطف، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا }.
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: ألزمهم كلمة بها يتقون النار.
ثم يحتمل { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }: كلمة الإخلاص وغيرها وما يقيهم النار، والله أعلم.
ويحتمل قوله: { وَأَلْزَمَهُمْ }: إظهار كلمة التقوى حتى تصير ظاهرة في الخلق أبداً إلى يوم القيامة، والله أعلم.
وقال بعضهم: { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } هي { بسم الله الرحمن الرحيم }، وذلك أنه لما كتب كتاب الصلح فيما بين أهل مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب: { بسم الله الرحمن الرحيم }، فقال ذلك: اكتب كذا، لا ندري ما الرحمن الرحيم. وذلك كلمة التقوى، والله أعلم.
والوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله: { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أي: بتلك الكلمة، وكانوا أهلا لها { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }.
وقال بعض أهل التأويل: { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } هي كلمة الإخلاص { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } من الأمم السالفة وأهلها، والله أعلم.
أو كانوا أحق بها في الإظهار في الخلق والقيام بذلك، وكانوا أحق بها في إلزامها في أنفسهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ }.
قال أهل التأويل: قوله: { صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ } أي: حقق الله لرسوله الرؤيا التي أراها إياه الحق؛ أي: بالوفاء لذلك.
ويحتمل: أي: صير النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً عندهم فيما أخبرهم أنه رأى، وجعله صادقاً في ذلك؛ والأول أشبه.
وقوله - عز وجل -: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على الأمر: أن ادخلوا المسجد الحرام، وإن كان في الظاهر خبراً؛ كرؤيا إبراهيم - عليه السلام - حيث قال:
{ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [الصافات: 102]، ثم قال الله - تعالى -: { ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [الصافات: 102] دل على أن ما رأى إبراهيم - صلوات الله عليه - من الذبح هو أمر بذلك، فإن كان التأويل هذا فيخرج الثنيا المذكور فيه على أثره، كأنه يقول: ادخلوا المسجد الحرام محلقين ومقصرين إن شاء الله أن تؤمنوا في دخولكم، وإذا لم تأمنوا لم يشأ أن تدخلوه، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } على الوعد، فيخرج الثنيا المذكور على وجهين:
أحدهما: على التبرك والتيمن، كما يتبرك بذكر اسمه في فعل يفعله، والله أعلم.
والثاني: على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول: إن شاء الله، كما يؤمر بالثنيا من أخبر شيئاً أنه يفعله، كقوله - تعالى -:
{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الكهف: 23-24].
ويحتمل أن يذكر الثنيا؛ لأن الوعد في الظاهر وإن كان للجملة كقوله: { لَتَدْخُلُنَّ }، فجائز أن يكون المراد منه بعض منهم، ليس الجملة؛ لاحتمال أن يموت بعض منهم [و] ألا يكون هو مراداً و[المراد] الجملة، فذكر الثنيا؛ لئلا يكون خلف في الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ما ذكر من رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه حققها يحتمل ما ذكر من دخول المسجد الحرام على أثره، فإن كان ذلك؛ فيكون قوله تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } هو تفسير لتلك الرؤيا.
وجائز أن تكون الرؤيا في غير ذلك.
وقوله: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } ابتداء وعد وأمر من الله تعالى، وكذلك ما ذكر من قوله حيث قال:
{ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60].
يحتمل ما ذكر في هذه الآية: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ... } إلى آخر ما ذكر.
ويحتمل غير هذا أيضاً، وقد أخبر أنه حققها وصدقها، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ }.
يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلقين مقصرين.
ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: في إبتداء الإحرام، يخرج على التزين على ما يزين المحرم في ابتداء إحرامه من نحو التطيب واللباس والحلق والتقصير، ونحو ذلك، يخبر أنهم يدخلون على التزين في المسجد الحرام آمنين من الكفار، فإن كان على ذلك فهو على الثياب والطيب وغير ذلك.
وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتمرا، فسميت تلك عمرة القضاء؛ حيث منع في عام الحديبية وكان معتمرا [فسميت] تلك عمرة وإن حاجا فيكون قوله: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } بعد رجوعهم من منى إلى طواف الزيارة في ذلك الوقت يكونون محلقين مقصرين، والله أعلم.
فإن قيل: ما الحكمة في أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النسك، ولا يحتمل إلى ذلك إلا بأمر من الله تعالى، ليس هو كغيره من الناس أنهم يفعلون أفعالا بلا أمر، ثم يمنعون أو ينهون عن ذلك، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يفعل شيئاً إلا عن أمر منه له بذلك.
قيل: يحتمل إنما أمر بذلك مع علمه بأنهم يمنعون عن ذلك؛ تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار: أن من حصر عن الحج، ومنع عن دخول مكة؛ لقضاء النسك، ماذا يلزمه؟
وبم يخرج منه؟ ولله تعالى أن يعلم خلقه أحكام شريعته مرة بأمر يأمرهم بذلك، أو بخبر يخبرهم، ومرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهم بما شاء، له الحكم والأمر في الخلق، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَ تَخَافُونَ }.
أي: تدخلون مكة آمنين، لا تخافون عدوكم، ولا منعهم إياكم.
وقوله - عز وجل -: { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ }.
هذا يخرج على وجوه:
أحدها: أي: علم ما وعد لكم من فتح خيبر وغنائمه ما لم تعلموا.
ويحتمل: أي: علم ما أرى وصوله صلى الله عليه وسلم من الرؤيا وتحقيقها ما لم تعلموا.
ويحتمل: أي: علم في رجوعكم عن الحديبية أشياء لم تعلموها أنتم من إظهار ما أظهر من نفاق أهل النفاق فيهم، وأهل الاضطراب من المحققين والمصدقين وغير ذلك، والله أعلم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } يقول: إن ذلك الدخول أي سنة؟ ولم تعلموا أنتم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }.
قال بعضهم: جعل من قبل أن يدخلوا مكة { فَتْحاً قَرِيباً }، أي: عاجلا فتح خيبر، والله أعلم.
وقول أهل التأويل: إنه اشتد على الناس رجوعهم من الحديبية وصدهم المشركون عما قصدوا، بعدما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أنهم يدخلون على ما وقع عندهم أن رؤيا الأنبياء - عليهم السلام - حق كالوحي.
لكن هذا لا يحتمل من المسلمين ما يحتمل من المنافقين على ما ذكر أنهم قالوا حين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية أن الرؤيا [كذب] أو كلام نحوه؛ فكل هذا يحتمل من المنافقين، فأما من المسلمين فلا يحتمل أن يقع في قلوبهم شيء من ذلك؛ لما لم يكن في الآية بيان ولا توقيت أنهم متى يدخلون؟ بل فيها الوعد بالدخول ليس فيها أنه متى؟ ألا ترى أن يوسف - عليه السلام - رأى رؤيا وخرجت بعد أربعين سنة أو أقل أو أكثر؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يخفى عليهم إذا لم يكن في الوعد توقيت أنه يجوز أن يتأخر أو يتقدم، والله أعلم.
ثم فيما ذكرنا من أمر الحديبية وصد المشركين إياهم عن دخول مكة والحيلولة بينهم وبين ما قصدوا - أنه لا يحتمل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقصد الحج وزيارة البيت مع أصحابه بلا أمر منه بذلك؛ لما ذكرنا، ثم إن ثبت له الأمر بذلك على علم من الله تعالى أنه لا يصل إلى تحصيل المأمور به وما قصدوا من دخول مكة زائرين، وما يكون من المشركين من المنع لهم والصد عن ذلك، وما أرادوا تحصيل ما أمرهم بذلك، فهذا دليل على أن الله تعالى قد يأمرهم ويريد غير الذي أمر به، وأنه يريد ما علم أنه يكون منهم الذي أمر به، وهو كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم كان حقيقة المراد بالأمر بذبح الولد ذبح الشاه والكبش؛ دل أن الأمر بالشيء لا يدل على أنه أراد الذي أمره به، بل يريد ما علم أنه يكون منهم من خلافه وضده، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ }.
أي: أرسله بالهدى من كل ضلال أو حيرة.
أو أرسله بالبيان من كل عمى وشبهة، وهو هذا القرآن الذي سماه مرة: هدى، ورحمة، ونورا، ونحو ذلك، وهو ما وصفه - عز وجل - أن من تمسك به يكون ما ذكر هدى من كل ضلالة وحيرة، ونورا من كل ظلمة، وبيانا من كل عمى وشبهة، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { وَدِينِ ٱلْحَقِّ }.
جائز أن يكون الحق هو نعت الدين وهو الإسلام، وهو الدين الحق، وسائر الأديان باطلة.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: { وَدِينِ ٱلْحَقِّ }؛ أي: دين الإله الذي هو الإله الحق، وهو الإله المستحق الألوهية وغيره من الأديان دين الشيطان، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ }.
الإظهار: هو الغلبة، ثم تخرج غلبته على الدين كله على وجهين:
أحدهما: أي: غلب هذا الدين على الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق، وأنه من عند الله جاء، وقد كان بحمد الله كما ذكر، حتى عرف أهل الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق إلا من كابر عقله وعاند الحق أو غفل عن دلائله، ولا قوة إلا بالله.
والثاني: يغلب على الأديان كلها، أي: يغلب على أهل الأديان كلهم حتى يصير أهل الإسلام ظاهرين غالبين من بين غيرهم، ويتوارى جميع أهل الأديان ويختفوا، ولكن ذلك في وقت دون وقت، وهو الوقت الذي ذكره بعض أهل التأويل، وهو في قوت خروج عيسى - عليه السلام - يصير أهل الأديان كلهم أهل دين واحد وهو الإسلام.
وجائز أن يكون قوله: { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ }، أي: يظهر ما يحتاج أهل هذا الدين كله وما حدث لهم من الحاجة - على الأديان كلها، بما ضمن في القرآن معاني تقع الكفاية بها في الحوادث كلها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } بأن ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إنما جاء به من عند الله، فإن كان التأويل هذا، فإنما تكون هذه الشهادة في الآخرة.
والثاني: يحتمل قوله تعالى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } بما أنشأه له من الآيات والحجج شهادة منه على رسالته وبنوبته، وذلك في الدنيا، والله أعلم.