التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
١
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }.
أجمع أهل التأويل على أن العقود - هاهنا - هي العهود، ثم العهود على قسمين:
عهود فيما بين الخلق، أمر الله - عز وجل - بوفائها.
وعهود فيما بينهم وبين ربهم، وهي المواثيق التي أخذ عليهم، من نحو: الفرائض التي فرض الله عليهم، والنذور التي يتولون هم إيجابها، وغير ذلك، أمر عز وجل بوفائها.
وأما العهود التي فيما بينهم من نحو: الأيمان وغيرها، أمر بوفاء ذلك إذَا لم يكن فيها معصيَة الرب؛ كقوله تعالى:
{ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا... } الآية [النحل: 91] أمر هاهنا بوفاء الأيمان، ونهى عن تركها ونقضها، ثم جاء في الخبر أنه قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ [عن] يَمِيْنَهُ" . أمر فيما فيه معصية بفسخها، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية، ونهى عن نقضها بقوله تعالى: { وَلاَ تَنقُضُواْ... } الآية [النحل: 91].
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }: وهي العهود، وهو ما أحل وما حرم، وما فرض وما حدَّ، في القرآن كله، وهو ما ذكرنا.
وقيل: إن العقود التي أمر الله - تعالى - بوفائها هي العهود التي أخذ الله - تعالى - على أهل الكتاب: أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويأخذوا بشرائعه، ويعملوا بما جاء به، وهو كقوله:
{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران: 187]، وكقوله: { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } [الآية] [المائدة: 12].
فالخطاب لهم على هذا التأويل؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به.
وقوله - عز وجل -: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ }.
قال بعضهم: هي الوحوش، وهو قول الفراء؛ ألا ترى أنه قال: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }؟!.
وقال الحسن: هي الإبل والبقر والغنم.
وقال آخرون: البهيمة: كل مركوب.
لكن عندنا: كل مأكول من الغنم، والوحش، والصيد، وغيره، وإن لم يذكر.
دليله، ما استثنى: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }؛ كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من
{ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ } الآية [المائدة: 3] { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }.
دل قوله: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } على أن الصيد فيه كالمذكور، وإن لم يذكر؛ لأنه استثنى الصيد منه، وأبداً: إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك، وأما إذا لم يكن؛ فلا معنى للاستثناء، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه، وإن لم يذكر.
ودل قوله - تعالى -: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [المائدة: 2] على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا عن أكله؛ لأن للمحرم أن يأكل صيداً صاده حلالٌ.
ودل قوله: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } على أن الصيد قد دخل في قوله: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } على ما ذكرنا فيما تقدم: أن البيان في الجواب يدل على كونه في السؤال، وإن لم يكن مذكوراً في السؤال؛ فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه، والله أعلم.
ويحتمل: { بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } الثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام:
{ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ... } إلى آخر ما ذكر [الأنعام: 143].
والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم - الأنعام منها - ثمانية؛ دل عليه قوله:
{ وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل: 5] ثم قال: { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [النحل: 8]؛ ففصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير؛ [فالخير والبغال والحمير] خلقها للركوب، والأنعام للأكل.
وقوله: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }.
كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد، { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ }: يحتمل: يتلى على الوعد، أي: يتلى عليكم من بعد ما ذكر على أثره:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ... } إلى آخر [المائدة: 3]، ويحتمل: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } وهو ما ذكر.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إلا ما يتلى عليكم فيها"، في سورة الأنعام:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً... } إلى آخره [الأنعام: 145].
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }.
هذا - والله أعلم - أي: إلى الله الحكم، يحكم بما شاء من التحريم والتحليل، فيما شاء، على ما شاء، ليس إليكم التحكم عليه، وهذا ينقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يريد طاعة كل أحد، ولو أراد ذلك لحكم؛ لأنه أخبر أنه يحكم ما يريد، ولا جائز أن يريد ولا يحكم؛ فدل أنه: لم يرد؛ لأنه لو أراد لحكم، وبالله العصمة.
وقوله - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }.
عن ابن عباس: - رضي الله عنه - قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل الله - تعالى -: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ }، يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه، { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ... } الآية.
وقال غيره: قوله: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }، يعني: المناسك، لا تستحلوا ترك شعائر الله، والشعائر هي المناسك؛ ألا ترى أن الله - تعالى - سمى كل منسك من الحج شعائر الله؟! كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } [البقرة: 158]، وقال: { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [الحج: 36]، كل هذا من شعائر الله، وهن معالم الله في الحج.
وقيل: شعائر الله: فرائض الله؛ كأنه قال: لا تستحلوا ترك ما فرض الله عليكم.
وقال الحسن: { شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } قال: دين الله، وهو واحد.
وقيل في قوله:
{ { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ... } [المائدة: 97] حتى بلغ { وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ } [المائدة: 97]، فقال: حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية؛ فكان الرجل لو جر جريرة وارتكب كبيرة، ثم لجأ إلى حرم الله - تعالى - لم يُتَنَاول ولم يُطْلب، ولو لقي قاتلَ أبيه في الأشهر الحرم لم يَتَعَرَّضْ له، وكان الرجل لو لقي الهدى مقلداً - وهو يأكل العصب من الجوع - لم يعرض له، ولم يقربه؛ فإذا أراد البيت يقلَّد قلادة من شعر؛ فحرمته ومنعته من الناس حتى يأتي أهله.
ويحتمل قوله - تعالى -: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }، أي: لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته، وهو من الأعلام، ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا.
وقال: لا تحلُّوا الحرام ولا الشهر الحرام، ولا الهدي ولا القلائد.
وهذه أمور كانت من قبل فَنُسِخَتْ بقوله - تعالى -:
{ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ... } الآية [التوبة: 5]. وعن الشعبي [أنه] قال: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية؛ نسخها: { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [التوبة: 28]، وقوله: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ... } الآية [التوبة: 5]. وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "إنها آخر ما أنزل؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه".
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } فهو هو كقوله - تعالى -:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [البقرة: 217].
وقد ذكرنا أن الله - عز وجل - أطلق الحرم في الشهر الحرام بعد ما كان محظوراً بقوله - تعالى -:
{ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5].
وأما قوله: { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ }.
فهو ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية فيما ذكرنا، وفيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم الله - حيث قالوا: إن الغنم لا تقلد، والإبل والبقر تقلد؛ لأنه ذكر الهدي والقلائد؛ فدل أن من الهدي ما يقلد، ومنه ما لا يقلد.
{ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }.
أي: قاصدين البيت الحرام.
{ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً }.
قيل: إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام يلتمسون فضل الله ورضوانه؛ بما يصلح لهم دنياهم؛ كقوله - تعالى -:
{ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [البقرة: 200]. وقد يجوز أن يكونوا لما التمسوا عند أنفسهم رضوان الله - أمر الله المؤمنين بالكف عنهم، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة؛ فجعلوها لغير الله؛ كقوله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [هود: 15].
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ }.
[دل] هذا على أن النهي في قوله: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } [المائدة: 1] أي: أخذ الصيد واصطياده في الإحرام، لا أكله، وهو إباحة ما حُظر عليهم بالإحرام، وإن كان ظاهره أمراً، ومعناه: فإذا حللتم لكم أن تصطادوا.
وأصله: أن كل أمر خرج على أثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم، لا أمر إلزام وإيجاب؛ من نحو قوله - تعالى -:
{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [الجمعة: 9]، ثم قال: { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [الجمعة: 10]، وهو المحظور المتقدم، وقوله - تعالى -: { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ } [الأحزاب: 53]، ثم قال - عز وجل -: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } [الأحزاب: 53] أمر إطلاق وإباحة ما حُظر عليهم، ومثله كثير في القرآن مما يكثر ذكره.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله: { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }: "ولا تأموا"، وكذلك في حرفه؛ "فأموا صعيداً طيباً".
وقيل في قوله - تعالى -: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً }: حجهم؛ فلا يقبل عنهم حتى يسلموا؛ فنهى الله - تعالى - رسوله عن قتالهم.
وقال بعضهم:
"إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة يقال له: شريح، وذلك أنه أتى المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنت محمد النبي؟ فقال: نَعَمْ، فقال: إلام تدعو؟ قال: أَدْعُوا إِلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَأَنَّي [مُحَمَّدٌ] رَسُولُ الله، فقال شريح: يا محمد، هذا شرط شديد، وإن لي أمراء خلفي أرجع إليهم؛ فأعرض عليهم ما اشترطت عليَّ، وأستأمرهم في ذلك، فإن أقبلوا أقبلت، وإن أدبروا أدبرت فكنت معهم، ثم انصرف خارجاً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعَقِبَىْ غَادِرٍ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهٍ كَافِرٍ، وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ فمرَّ شريح بسرح لأهل المدينة فساقها منهم. فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة، ومعه تجارة عظيمة في حجاج، وكانت العرب في الجاهلية يُغِير بعضهم على بعض، فإذا كان أشهر الحرم، أمن الناس كلهم بعضهم بعضاً، فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر أو الوبر؛ فيأمن بذلك الهدي حيثما ذهب، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج شريح، وقدومه إلى مكة، أرادوا أن يغيروا على شريح؛ فيأخذوا ما معه، ويقتلوهم؛ كما أغار شريح على سريح أهل المدينة قبل ذلك؛ فاستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم [في ذلك]؛ فنزلت الآية فيهم: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ... }" إلى آخره؛ فلا ندري كيف كانت القصة؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة، إلا القدر الذي ذكر الله في ذلك.
وقوله: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ }، وقال تعالى في موضع آخر:
{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } الآية [المائدة: 8]، وقال في آية أخرى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } الآية [النساء: 135].
ذكر في بعضها الاعتداء ونهى عنه، وهو المجاوزة عن الحد الذي حُد لهم. وذكر في بعضها العدل، وأمر به، ونهى عن الظلم والجور.
ثم الأسبابُ التي تحملهم وتبعثهم على الاعتداء والظلم، وتمنع القيام بالشهادة والعدل - ثلاثة:
أحدها: ما ذكر - عز وجل - البغض والعداوة، بقوله: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ] أَن تَعْتَدُواْ } [المائدة: 2]، وقال:
{ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } [المائدة: 8]، وقال: { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } [النساء: 135] أمرهم بالقيام بالشهادة، وأخبر ألا يمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة، أو طَمَعُ غِنًى أو خَوْفُ فَقْرٍ.
هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة، وتبعثهم على الجور والاعتداء؛ فنهاهم الله - عز وجل - أن يحملهم بغض قوم، أو عداوة أحد على الجور والاعتداء. أو تمنعهم الشفقة، أو القرب، أو طمع غنى أحد، أو خوف فقر - القيامَ بالشهادة وما عليهم من الحق.
وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله:
{ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } [النساء: 135]، فإذا كان كله لله، قدر أن يعدل في الحكم، وترك مجاوزة الحد الذي حد له، وقدر على القيام بالشهادة، وما ذكر، وما يمنع شيء من ذلك القيام به، من نحو ما ذكر: من البغض والعداوة، والقرب والشفقة، أو طمع الغنى وخوف الفقر؛ إذا جعل الحكم لله عدل فيه، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء، وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها، ولو على نفسه، أو ما ذكر، لم يمنعه شيء عن القيام بها.
وقوله - عز وجل -: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ }:
كأن البر هو اسم كل خير، والتقوى: هي ترك كل شرٍّ.
{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ }.
ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر: الإثمَ، وبإزاء التقوى: العدوانَ؛ فهذا يبين أن البرَّ: اسم لكل خير، والتقوى: هي الانتهاء عن كل شرٍّ.
ويجوز أن يكون ما ذكر في الآية الأولى وأمر به، وهو قوله: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } إلى قوله: { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } يقول: عاونوهم على ما يأتون به من ذلك؛ فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم، وإن لم يكن فعلهم برًّا؛ لعبادتهم غير الله تعالى.
وإنما أمروا بمعاونتهم، وترك التعرض لهم - إن ثبت ما ذكر في القصة -: إذا أحرموا، أو قلدوا، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه؛ كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نعرض لكنائسهم وبَيعِهِم، وإن كانوا يعصون الله فيها؛ لأنهم يدينون بذلك، ويقصدون به البرّ عند أنفسهم.
فلما أمر بنقض عهود مشركي العرب، أمر بمنعهم من دخول المسجد، وأن يقتلوا حيث وجدوا، وإلى هذا المعنى ذهب أصحابنا - رحمهم الله، والله أعلم - في فَرْقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم، وشهادة فُسَّاق المسلمين؛ لأن أهل الذمة متدينون بكفرهم، والفساق غير متدينين بفسقهم. وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين، وبين ما يغلب عليه الفساق من أموال المسلمين. وكذلك سبيل الدماء التي يصيبها المحاربون من أهل البغي من أهل العدل، لا تشبه ما يصيبه الفساق منها؛ لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه؛ ألا ترى أنه يجوز أن يُطْلَقَ لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم، وإن كان ذلك عندنا معصية حراما، ولا يجوز أن يُطْلَقَ المعصية لفساق المسلمين بحال.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }:
أي: نقمة الله وعذابه: في ترك ما أمركم به، وارتكاب ما نهاكم عنه.
{ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
قال ابن عباس: رضي الله عنه - في قوله: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }: أي: لا يحملنكم بغض قوم؛ لصدهم إياكم عن البيت الحرام؛ فتأثموا فيهم: أن تعتدوا؛ فتقتلوهم، وتأخذوا أموالهم.
وقال: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } البر: ما أمرت به، والتقوى: الكف عما نهيت عنه.
وقال: والعدوان: هو المجاوزة عن حد الله الذي حده لعباده.
وقوله: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ }: قال بعضهم: لا يؤثمنكم بغض قوم أن تعتدوا.
وقال آخرون: لا يحملنكم.
وفيه لغتان: { يَجْرِمَنَّكُمْ } برفع الياء، وبنصبها: { يَجْرِمَنَّكُمْ }، وهو ما ذكرنا.