التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا... } الآية.
عام في السراق، خاص في السرقة؛ لأنه يدخل جميع أهل الخطاب في ذلك، وإن كان يجوز أن يدرأ الحد عن بعض السراق، إذا سرقوا من محارمهم، أو ممن له تأويل الملك في ماله أو شبهة التناول منه؛ لأنه إذا سرق ممن ليس له ذلك التأويل ولا تلك الشبهة - قطع؛ فدل أنها عامة في السراق؛ وعلى هذا يخرج قول ابن عباس؛ حيث سئل عن قوله - تعالى -: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } أخاص هو أم عام؟ فقال: "لا؛ بل عام" أي: عام في السراق؛ ألا ترى أنه قال في خبر آخر؛ حيث سئل عن ذلك فقال: "ما كان من الرجال والنساء قطع".
وأما قولنا: "خاص في السرقة"؛ لأنه لا يحتمل قلب أحد قطع اليد في الشيء التافه الخسيس الذي إذا أخذ [منه] دل أن الخطاب بذلك من الله - عز وجل - رجع إلى سرقة دون سرقة، لا إلى كل ما يقع عليه اسم السرقة؛ وكذلك الخطاب بقطع اليد رجع إلى بعض اليد، وهو الكف، وإن كان اسم اليد يقع من الأصابع إلى الإبط؛ لأن الناس مع اختلافهم - اتفقوا على أن اليد لا تقطع من الإبط ولا من المرفق، لكنهم اختلفوا فيما دون ذلك: فعلى قول بعضهم: تقطع الأصابع دون الكف، وعندنا: أنه تقطع الأصابع بالكف؛ لأنه بها يُقْبَضُ الشيءُ ويُؤْخذ؛ فمخرج الخطاب بالقطع عام، والمراد منه: رجع إلى بعض اليد دون بعض.
وكذلك قوله تعالى: { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } مخرج الخطاب بالقطع عام، ليس فيه بيان من يتولى القطع، فالمراد منه: رجع إلى الولاة؛ فهذا كله يدل على أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوص اللفظ دليل خصوصه؛ بل يعرف ذلك كله بدليل: يقوم العموم بدليل العموم، والخصوص بدليل الخصوص؛ فهذا ينقض قول من يقول: إنه على العموم حتى يقوم دليل الخصوص، والله أعلم.
فإن قيل لنا: أيش الحكمة في إقامة الحد في السرقة على ما به تكتسب السرقة وهو اليد، ولم يقم الحد في سائر الحدود فيما به كان اكتسابها؛ من نحو القصاص والزنا وغيره، أنه إذا قتل آخر لم تقطع يده وبها كان اكتساب القتل؛ وكذلك الزنا لم يقم الحد على ما به كان الزنا، بل أقيم على غير ما به كان ذلك الفعل، وفي السرقة أقيم على ما به كان ذلك خاصة؟!
قيل: والله أعلم - لخلتين: إما لقصور في الاستيفاء من الحق، أو لخوف الزيادة في الاستيفاء على الحق؛ لأنه إذا قتل: لو قطعت يده بقيت له النفس، وقد تلفت نفس الآخر، فكان في ذلك قصور في استيفاء الحق.
وفي الزنا: لو أقيم به على الذي به كان اكتساب الفعل لخيف تلف نفسه به؛ فكان في ذلك استيفاء الزيادة على الحق.
وأما السرقة: فإنه أمكن استيفاء الحق مما كان به اكتسابها، على غير قصور يقع في الاستيفاء، ولا خوف الزيادة في الاستيفاء؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
فإن قيل: ما الحكمة في قطع يد قيمتها ألوف بسرقة عشرة، وذلك مما لا يمثاله في الظاهر، وقد أخبر ألا يجزي إلا مثلها، كيف جزي هذا بأضعاف ذلك؟ قيل: لهذا جوابان:
أحدهما: أن جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن ابتداء على غير جعل ذلك جزاء لكسب يكتسب، فمن له الامتحان بأنواع المحن على غير جعلها جزاء لشيء - كان له الامتحان بأن يجعل ما يساوي ألوفاً جزاء فلس أو حبة، وبالله العصمة والنجاة.
والثاني: أن ليس القطع في السرقة جزاء ما أخذ من المال؛ ولكنه جزاء ما هتك من الحرمة؛ ألا ترى أنه قال: { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا }، ولم يقل: جزاء بما أخذا من الأموال؟! فيجوز أن يبلغ جزاء تلك الحرمة قطع اليد، وإن قصر علم البشر عن ذلك؛ لأن مقادير العقوبات إنما يعرف من يعرف مقادير الإجرام، وليس أحد من الخلائق يحتمل علمه مبلغ مقادير الإجرام، فإذا لم يحتمل علمهم مبلغ مقاديرها لم يحتمل معرفة مقادير عقوباتها، فإذا كان كذلك فحق القول فيه الاتباع والتسليم - بعد العلم في الاتباع - أن الله لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، وبالله التوفيق.
ثم الكلام في قطع اليمين ما روي في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "فاقطعوا أيمانهما".
وعن علي - رضي الله عنه -: قال: "إذا سرق الرجل قطعت يده اليمنى"، وعلى ذلك اتفاق الأمة.
ثم المسألة في مقدار السرقة، وليس في الآية ذكر مقدارها، واختلف أهل العلم في ذلك:
فقال بعضهم: تقطع في ربع دينار فصاعداً.
وقال أصحابنا: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعداً أو دينار.
وقد روي من الأخبار ما احتج به كل فريق منهم:
روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعداً. وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً" .
وعروة بن الزبير يقول: كانت عائشة - رضي الله عنها - تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لاَ تُقْطَعُ اليَدُ إِلاَّ فِي المِجَنِّ أَوْ فِي ثَمَنِهِ" وتزعم أن قيمة المجن أربعة دراهم؛ فدل قول عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن - أن قولها: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقطع اليد إلا في ربع دينار" أن ثم المجن كان عندها ربع دينار أو لا يكون كذلك؛ وعلى ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" . في الخبر أنه قطع في مجن، وأما التقويم فإنما هو من عند عبد الله.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن، فقيل: يا أبا حمزة، كم كانت قيمته؟ قال: دون خمسة دراهم؛ هذا يدل على أن التقويم كان من أنس، فكان ذلك كتقويم ابن عمر وعائشة، رضي الله عنهم.
وليس في التقويم حجة في واحد من المقومين؛ لمخالفة كل واحد منهم صاحبه، وإنما قوموه من قِبَلِ أنفسهم.
فأما إن كان في مِجَنَّيْنِ مختلفين: فهو على التناسخ، وأما إن كان في مجن واحد في وقتين مختلفين: فإن كان في وقتين مختلفين، لم يكن لمخالفنا فيه حجة؛ لما يحتمل الزيادة والنقصان على اختلاف الأوقات، وإن كان في مجنين مختلفين فهو على التناسخ فلم يظهر؛ فلا يقدم على القطع بالشك.
ثم الأخبار التي تمنع القطع بدون العشرة:
ما روي عن عمرو بن شعيب قال: "دخلت على سعيد بن المسيب، فقلت له: إن أصحابك: عروة، ومحمد بن مسلم، وفلان - رجل آخر - يقولون: ثمن المجن خمسة دراهم أو ثلاثة؟ فقال: أما هذا فقد مضت السنة فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ثمن المجن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنه كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن، وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم" .
فلما اختلف المقومون في قيمة المجن رجعنا إلى ما روي عن سعيد بن المسيب؛ حيث قال: "مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم" وإن كان مرسلاً؛ إذ لا معارض له، ويؤيد هذا ما روي عن نجباء الصحابة من نحو: عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم.
وروي أن عمر أتى بسارق فأمر بقطعه؛ قال عثمان - رضي الله عنه -: "سرقته لا تساوي عشرة دراهم"؛ فأمر بها فقومت ثمانية دراهم، فلم يقطعه.
وعن ابن مسعود قال: "لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم".
وعن علي - رضي الله عنه - قال: "لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم".
وروي عن عائشة قالت: "لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه"، فأخذ أصحابنا - رحمهم الله - بهذه الأخبار ولم يروا قطع اليد بدون العشرة؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن اليد تقطع في سرقة عشرة دراهم، واختلفوا في وجوب القطع فيما دون العشرة وهو حد قد روي؛ للإشكال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ... } [الآية]:
يحتمل قوله: { نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ }، أي عظة وزجراً من الله لغيره؛ لأن من عاين آخر قطعت يده في سرقة - اتعظ به، وزجره ذلك على الإقدام عليه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ... } الآية.
يحتمل: { تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } أي: تاب عن الشرك، وأصلح ما كان يفسده ويرتكبه في حال شركه.
{ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
وعد له المغفرة والرحمة؛ إذا تاب عن الشرك، وأصلح ما كان يفسده ويرتكبه في حال الشرك، حتى لم يؤاخذ بشيء مما كان يرتكبه في حال الشرك ويتعاطاه إذا أسلم؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -:
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38]، والمسلم في حال الإسلام إذا ارتكب حدوداً وتعاطاها، ثم تاب - أخذ بها؛ لوجهين:
أحدهما: أن الكافر لو أُخِذَ بعدما أسلم بما كان ارتكب في حال الكفر وتعاطاه؛ فذلك يمنعه عن الإسلام ويزجره؛ فإذا كان كذلك فكان في إقامة ذلك والأخذ بها من الفساد أكثر من الصلاح.
وأما المسلم إذا لم يؤخذ بما ارتكب وتعاطى بعد التوبة - يدخل في ذلك من الفساد ما يفحش؛ وذلك أنه كلما أريد أن يقام عليه الحد تاب فسقط ذلك عنه، ثم عاد ثانياً، ثم ثالثاً ... إلى ما لا يتناهى، فعمل في الأرض بكل الفساد من غير أن لحقه ضرر؛ لذلك أخذ به بعد التوبة، والكافر لا، والله أعلم.
والثاني: أن الكافر ما يرتكب ويتعاطى في حال الكفر - إنما يرتكبه تديناً يدين به؛ فإذا رجع عن ذلك الدين ودان بدين آخر ما يكون ذلك حراماً في دينه الذي تمسك به - ترك ما كان يرتكب في دينه الأول تديناً؛ فيظهر ذلك منه؛ فلم يقم عليه؛ لما يظهر منه ترك ما تعاطى قبل ذلك.
وأما المسلم: فليس يتعاطى ما يتعاطى تديناً يدين به؛ ولكن يتعاطاه شهوة، وذلك مما لا يظهر منه التوبة حقيقة؛ لذلك اختلفا، والله أعلم.
وفيه دليل جواز تأخر البيان؛ لأنه قال تعالى: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً }، ولا يحتمل أن يبين له جميع شرائط السرقة التي يجب فيها القطع وقت قرع الخطاب السمع؛ فدل أنه إنما يبين له على قدر الحاجة بعد السؤال والبحث عنها، والله أعلم.
وكأن جميع ما ذكر من العقوبات إنما نزل في أهل الكفر؛ لأنهم هم الذين كانوا يتعاطون ذلك دون المسلمين، وترك عامة العبادات في المسلمين؛ لأنهم هم الذين يرغبون فيها: من ذلك قوله - تعالى -: { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ... } الآية، وما ذكر في ابني آدم.
وقوله تعالى: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا... } الآية: ذكر عن ابن عباس أنه قال: "نزلت في طعمة بن أبيرق؛ سرق درع جاره؛ فنزلت الآية"، وعلى ذلك قال عامة أهل التأويل، ثم صار ذلك الحكم في المسلمين إذا ارتكبوا تلك الأجرام، وفيه دليل جواز القياس، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ }.
ذكر هذا - والله أعلم - على أثر قوله: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا }، وعلى أثر قوله: { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ... } الآية -: أن له ملك السماوات والأرض، وله أن يعذب من يشاء بعد التوبة وقبل التوبة، ويغفر لمن يشاء، ولا يعذب بعد التوبة؛ وذلك أن المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه لم يقم عليه الحد الذي وجب في حال المحاربة، والسارق إذا تاب قبل أن يقدر عليه أخذ به. أخبر أن له أن يعذب من يشاء [و] يغفر لمن يشاء.
وفي نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الصغيرة مغفورة ليس له أن يعذب عليها، والكبيرة يخلد صاحبها في النار ليس له أن يعفو عنها. فلو كان على ما قالوا لذهب معنى التخيير بقوله - تعالى -: { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } إذا ما عفا: عفا ما عليه أن يعفو، وكذلك ما عذب: عذب ما عليه أن يعذب؛ فيذهب فائدة التخيير، وقد أخبر أنه { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ }.