التفاسير

< >
عرض

قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ }.
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يخرج مخرج البيان لهم [و] أنه ليس على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر لكان يذكر سؤاله لهم، ولم يذكر وإن سألهم، لا يحتمل ألا يخبروه بذلك، فلما لم يذكر سؤاله لهم عن ذلك، ولا يحتمل أن يأمره بالسؤال ثم لا يسأل، أو يسأل هو ولا يخبرونه - فدل أنه على البيان خرج لا على الأمر.
والثاني: على أمر سبق؛ كقوله - تعالى -:
{ قُل لِّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون: 84-85] وكقوله: { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ... } [المؤمنون: 88] إلى قوله: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون: 89] وقوله: { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الرعد: 16] ونحوه، كان على أمر سبق، فسخرهم - عز وجل - حتى قالوا: الله؛ كقوله: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25] ذلك تسخير منه إياهم حتى قالوا: الله.
وفي حرف ابن مسعود، وأبي بن كعب - رضي الله عنهما - { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } هذا يدل على أنه كان على أمر سبق.
وقال بعضهم: { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: سلهم، فإن أجابوك فقالوا: لله، وإلا فقل لهم أنت: لله.
وقال قائلون: فإن سألوك لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله.
وقوله - عز وجل -: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ }.
قال الحسن: كتب على نفسه الرحمة للتوابين [إن شاء] أن يدخلهم الجنة، لا أحد يدخل الجنة بعمله، إنما يدخلون الجنة برحمته، وعلى ذلك جاء الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يدخل أحد الجنة بعمله قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" .
وقيل: كتب على نفسه الرحمة أن يجمعهم إلى يوم القيامة، أي: من رحمته أن يجمعهم إلى يوم القيامة، حيث جعل للعدو عذاباً، وللولي ثواباً، أي: من رحمته أن يجمعهم جميعاً، يعاقب العدو ويثيب الولي.
وقيل: أي: من رحمته أن جعل لهم الجمع، فأوعد العاصي العذاب، ووعد المطيع الثواب؛ ليمنع العاصي ذلك عن عصيانه، وليرغب المطيع في طاعته، وذلك من رحمته.
وقال قائلون: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } لأمة محمد ألا يعذبهم عند التكذيب، ولا يستأصلهم، كما عذب غيرهم من الأمم، واستأصلهم عند التكذيب، فالتأخير الذي أخرهم إلى يوم القيامة من الرحمة التي كتب [على نفسه].
وقوله - عز وجل -: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } قيل: { إِلَىٰ } صلة، ومعناه: ليجمعنكم يوم القيامة.
وقيل: { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } أي: ليوم القيامة، كقوله:
{ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [آل عمران: 9].
وقال قائلون: قوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في القبور { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } ثم يجمعكم يوم القيامة والقرون السالفة.
وقوله - عز وجل -: { لاَ رَيْبَ } أي: لا ريب في الجمع والبعث بعد الموت عند من يعرف أن خلق الخلق للفناء خاصة، لا للبعث والإحياء بعد الموت للثواب والعقاب، ليس لحكمة.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } قد ذكرناه.
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } في الآية - والله أعلم - إنباء أن الخلق كلهم تحت قهر الليل والنهار وسلطانهما، مقهورين مغلوبين؛ إذ لم يكن لأحد من الجبابرة، والفراعنة الامتناع عنهما، ولا صرف أحدهما إلى الآخر، بل يدركانهم، شاءوا أو أبوا، وسلطانهما جار عليهم ليعلموا أن لغير فيهما تدبيرا، وأن قهرهما الخلق وسلطانهما كان بسلطان من له التدبير والعلم، ثم جريانهما على سنن واحد [ومجرى واحد] يدل على أن منشئهما واحد، ومدبرهما عليم حكيم.
وقال بعض أهل التأويل: { مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 13] ما استقر في الليل والنهار، من الدواب والطير، في البر والبحر، فمنها ما يستقر نهاراً وينتشر ليلا، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وذلك أن كفار أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد، إنا قد علمنا [أنه] ما يحملك على هذا الذي تدعو إليه إلا الحاجة، فنحن نجعلك في أموالنا حتى تكون أغنانا رجلا، وترجع عما أنت عليه؛ فنزلت: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }؛ لمقالة أولئك.
{ ٱلْعَلِيمُ } من أين يرزقهم، لكن الوجه فيه ما ذكرنا آنفاً أن الخلق كلهم تحت قهرهما وسلطانهما.
وفيهما وجوه من الحكمة:
أحدها: بعض ما ذكرنا ليعلم أن مدبرهما واحد، وفيه نقض قول الفلاسفة؛ لأنهم يقولون: الظلمة كثافة ستارة، والنور دقيق دراك.
وفيهما ما ذكر من المنافع بقوله:
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً } [الفرقان: 47] وغيره من المنافع.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } لمن دعا له، { ٱلْعَلِيمُ }: بمصالح الخلق وحاجتهم.