التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
١٥٩
مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٦٠
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً }.
عن عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قال أحدهما: فتيكم في الكفرة، وقال الآخر في أهل الصلاة.
وقيل: هم الحرورية.
وقيل: هم اليهود والنصارى.
ولكن لا ندري من هم، وليس بنا إلى معرفة من كان حاجة.
ثم يحتمل وجوهاً ثلاثة:
يحتمل: فارقوا دينهم حقيقة؛ لأن جميع أهل الأديان عند أنفسهم أنهم يدينون بدين الله، لا أحد يقول: إنه يدين بدين غير الله.
ألا ترى أنهم قالوا:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]: فهم وإن كانوا عند أنفسهم أنهم يدينون بدين الله، فهم في الحقيقة فارقوا دينهم، وليسوا على دين الله.
ويحتمل قوله: فارقوا دينهم الذي أمروا به ودعا إليه الرسل والأنبياء - صلوات الله عليهم - فارقوا ذلك الدين.
ويحتمل: فارقوا دينهم الذي دانوا به في عهد الأنبياء والرسل بدين الله، ففارقوا ذلك الدين، والله أعلم؛ كقوله:
{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89]، وكقوله: { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... } الآية [آل عمران: 106]: كانوا مؤمنين به، وصاروا شيعاً، أي: صاروا فرقاً وأحزاباً.
وقوله - عز وجل -: { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }.
من الناس من صرف [تأويل قوله]: { لَّسْتَ مِنْهُمْ }، أي: ليست أنت من قتالهم في شيء؛ كأنه نهاه عن قتالهم في وقت، ثم أذن له بعد ذلك، ثم نسخته آية السيف، وهذا بعيد.
ويحتمل: { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }، أي: لست من دينهم في شيء؛ لأن دينهم كان تقليداً لآبائهم، ودينك دين بالحجج والبراهين؛ فلست منهم، أي: من دينهم في شيء.
ويحتمل: { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }، أي: لا تسأل أنت عن دينهم ولا تحاسب على ذلك؛ كقوله:
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } الآية [الأنعام: 52].
أو يخرج على إياس أولئك الكفرة عن عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دينهم؛ كقوله:
{ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } الآية [المائدة: 3].
وقوله - عز وجل -: { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ }.
يحتمل: أي الحكم فيهم إلى الله؛ ليس إليك، هو الذي يحكم فيهم.
أو أن يكون أمرهم إلى الله في القتال، حتى يأذن لك بالقتال.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }.
هو وعيد.
وقوله - عز وجل -: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا }.
ليس في قوله: { فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } إيجاب الجزاء في السيئة، وفي قوله: { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } إيجاب الجزاء؛ لأنه قال: فله كذا؛ فيه إيجاب الجزاء، وإنما إيجاب الجزاء في السيئة بقوله:
{ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123] وغيره من الآيات.
وقد ذكرنا أن إيجاب الجزاء والثواب في الحسنات والخيرات إفضالٌ وإحسان؛ لأنه قد سبق من الله - تعالى - إلى كل أحد من النعم ما يكون منه تلك الخيرات جزاء لما أنعم عليه وشكراً له، ولا جزاء للجازي إلا من جهة الإفضال والإكرام.
وأما جزاء السيئة فمما توجبه الحكمة؛ لما خرج الفعل منه مخرج الكفران لما أنعم عليه؛ فيستوجب بالكفران العقوبة والجزاء على ذلك.
والثاني: أنه خرج الفعل منه في الخيرات والحسنات على موافقة خلقته وصورته وتقويمه وتسويته على ما خلقها الله وأنشأها وبناها؛ فلم يخرج الفعل منه على خلاف ما هو بني عليه؛ فلم يستوجب به الجزاء.
وأما السيئات: فهي إخراجها على خلاف خلقتها وتقويمها وصرفها إلى غير الوجه الذي كانت خلقتها وتقويمها؛ فاستوجب بذلك العقوبة والجزاء عليها؛ لقوله:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
وقوله - عز وجل -: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }.
ليس هو على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، إنما خرج - والله أعلم - على التعظيم لذلك والإجلال؛ لأنه أخبر في النفقة التي تنفق في سبيل الله أنها تزداد وتنمو إلى سبعمائة، ولا يجوز أن يكون في الحسنة التي جاء بها في التوحيد [ما] يبلغ إلى ما ذكر، وإذا جاء بنفس ذلك التوحيد لا يبلغ ذلك أو يقصر عن ذلك، ولكنها - والله أعلم - على التعظيم له، أو على التمثيل؛ كقوله:
{ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الحديد: 21] ذكر هذا؛ لما لا شيء عند الخلق أوسع منها، وكقوله: { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ } [مريم: 90] ومثله هو على التمثيل؛ خرج لعظيم ما قالوا في الله، ليس على أنها تنشق أو تنفطر؛ فعلى ذلك الأول أنه يخرج لما ذكرنا، لا على التحديد له والوقف.
ثم قوله: من جاء بالحسنة فله كذا، ومن جاء بالسيئة فله كذا: ذكر مجيء الحسنة ومجيء السيئة، ولم يقل: من عمل بالحسنة فله كذا، ومن عمل بالسيئة؛ ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه؛ فكأنه قال: من ختم بالحسنة وقبض عليها فله كذا؛ لأنه قد يعمل بالحسنة، ثم يفسدها وينقضها بارتكاب ما ينقضه ويفسده من الشرك وغيره؛ على ما روي:
"الأعمال بالخواتيم" .
ثم اختلف في قوله: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }: قال بعضهم: [من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها بعد التوحيد] ومن جاء بالسيئة بعد التوحيد فلا يجزي إلا مثلها.
وقال بعض أهل التأويل: من جاء بالحسنة يعني بالتوحيد فله عشر أمثالها، لكنه ليس على التحديد لما ذكرنا، ولكن على التعظيم له والقدر عند الله، أو على التمثيل. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها [يعني: الشرك، لا يجزى إلا مثله]. فكان التخليد في النار مثل الشرك؛ لأن الشرك أعظم السيئات.
وفي الآية دلالة أن المثل قد يكون من غير نوعه؛ حيث أوجب في الحسنة من الثواب عشر أمثالها ومن السيئة مثلها، وليس واحد منهما من نوع الأصل والعمل الذي يثاب عليه.
وقيل: من جاء بالحسنة في الآخرة: بالتوحيد، فله عشر أمثالها، في الأضعاف. ومن جاء بالسيئة في الآخرة، يعني: الشرك فلا يجزى إلا مثلها في العظم؛ فجزاء الشرك النار؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، وذلك كقوله
{ جَزَآءً وِفَاقاً } [النبأ: 26]، أي: وفاق العمل.
وقوله - عز وجل -: { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جميعاً لا يزاد على المثل ولا ينقص مما ذكر.