التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
٦٤
قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
٦٥
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
٦٦
لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٦٧
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } ليس هذا على الأمر له، ولكن على المحاجة؛ كقوله - تعالى -: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ } [الروم: 42]، ليس على الأمر بالسير في الأرض، ولكن على الاعتبار بأولئك الذين كانوا من قبل، والنظر في آثارهم وأعلامهم [أن] كيف صاروا بتكذيبهم الرسل، وماذا أصابهم بذلك؛ فعلى ذلك هذا، فيه الأمر بالمحاجة معهم في آلهتهم: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } آلهتكم التي تعبدون من دون الله، وتشركونها في ألوهيته وربوبيته، أو الله الذي خلقكم؟ فسخرهم حتى قالوا: [الله] هو الذي ينجينا من ذلك، فقال: { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ }، فإذا كان هو الذي ينجيكم من هذا لا آلهتكم التي تبعدونها؛ فكذلك هو الذي ينجيكم من كل كرب ومن كل شدة.
ويحتمل قوله - تعالى -: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ }.
أي: لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر؛ كقوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ }، أي: لا أحد أظلم من تخافون على آلهتكم الهلاك كما تخافون على أنفسكم؟ فلا أحد سواه ينجيكم من ذلك ومن كل كرب.
قال أبو بكر الكيساني: هم عرفوا في الدنيا أنه هو الذي ينجيهم من ذلك كله، وهو الذي يعطي لهم ما أعطوا بما قامت عليهم الحجج، ولم يعرفوا أنه هو الذي ينجيهم في الآخرة ويهلكهم، وهو هكذا: عرفوا الله في الدنيا، ولم يعرفوه في الآخرة.
ثم اختلف في ظلمات البر والبحر:
قال بعضهم: الظلمات: هي الشدائد والكروب التي تصيبهم بالسلوك في البر والبحر.
وقال آخرون: الظلمات هي الظلمات لأن أسفار البحار والمفاوز إنما تقطع بأعلام السماء، فإذا أظلمت السماء بقوا متحيرين لا يعرفون إلى أي ناحية يسلكون، ومن أي طريق يأخذون، فعند ذلك يدعون الله تضرعاً وخفية.
قال الحسن: التضرع: هو ما يرفع به الصوت، والخفية: هي ما يدعي سرّاً وهو من الإخفاء.
وفي حرف ابن مسعود: (تدعونه تضرعاً وخيفة) وهي من الخوف.
قال الكلبي: في خفض وسكون، وتضرع إلى الله.
وقوله - عز وجل -: { لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ }.
قال أبو بكر لنكونن من الشاكرين، أي: لا نوجه الشكر إلى غيرك، والشكر - هاهنا -: هو التوحيد، أي: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الموحدين لك من بعد؛ لأنهم كانوا يوحدون الله في ذلك الوقت، لكنهم إذا نجوا من ذلك أشركوا غيره في ألوهيته.
ألا ترى أنه قال: { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } بعد علمكم أن الأصنام التي تعبدونها لم تملك الشفاعة لكم، ولا الزلفى إلى الله؛ يذكر سفههم في عبادتهم الأوثان على علم منهم أنها لا تشفع [لهم]، ولا تملك دفع شيء عنهم.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }.
اختلف في نزول الآية فيمن نزلت؟
قال بعضهم: نزلت في مشركي العرب - وهو قول أبي بكر الأصم - لأنها نزلت على أثر آيات نزلت في أهل الشرك، من ذلك قوله:
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [الأنعام: 50].
وقوله:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ... } الآية [الأنعام: 46].
وقوله:
{ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً... } [الأنعام: 61] إلى قوله - تعالى -: { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [الأنعام: 62]: هذه الآيات كلها نزلت في أهل الشرك، فهذه كذلك نزلت فيهم؛ لأنها ذكرت على أثرها؛ ولأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك، إلا آيات منها نزلت في أهل الكتاب، وسورة المائدة نزل أكثرها في محاجة أهل الكتاب؛ لأنه يذكر فيها: { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [المائدة: 59، 68، 77].
ومنهم من يقول: نزلت في أهل الإسلام، وهو قول أبي بن كعب، وقال: هن أربع، فجاء منهن ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألبسهم شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض.
أما لبس الشيع: هي الأهواء المختلفة، { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } هو السيف والقتل، هذان قد كانا في المسلمين، وبقى ثنتان لا بد واقعتان.
ومنهم من يقول: كان ثنتان في المشركين من أهل الكتاب، وثنتان في أهل الإسلام، وهو قول الحسن قال: قد ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة والقتل والفتن، وأما اللذان في أهل الشرك من أهل الكتاب: فهما الخسف في الأرض، والحجارة من السماء.
ثم اختلف في قوله: { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ }، أي: من أمرائكم، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }.
أي: من سفلتكم؛ لأن الفتن ونحوها إنما تهيج من الأمراء الجائرين ومن أتباعهم.
وقوله - عز وجل -: { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً }.
قال: الأهواء المختلفة.
وقوله - تعالى -: { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }.
أي: يسلط بعضهم على بعض بالقتل والعذاب.
ومن قال بأن الآية نزلت في أهل الشرك يقول: كان في أشياعهم ذلك كله، أما العذاب من الفوق فهو الحصب بالحجارة؛ كما فعل بقوم لوط، ومن تحت أرجلهم وهو الخسف؛ كما فعل بقارون ومن معه.
وقوله: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً }.
يقول: فرقاً وأحزاباً، وكانت اليهود والنصارى فرقاً مختلفة، اليهود فرقاً والنصارى كذلك؛ كقوله:
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [المائدة: 64] وقوله: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [المائدة: 14].
وقوله: { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }.
هو الحرب والقتال.
وقول الحسن ما ذكرنا أنه ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة وظهر الحرب والقتل.
وأما الخسف والحصب: فلم يظهرا؛ فهما في أهل الشرك.
ويحتمل قوله: { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } أرسلها عليهم؛ لأنهم قد أقروا أنه [هو] رفع السماء، فمن قدر على رفع شيء يقدر على إرساله.
وقوله: { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }.
لأنهم عرفوا أنه بسط الأرض، ومن ملك بسط شيء يملك طيه ويخسف بهم.
وقوله - عز وجل -: { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ }.
قيل: أي: نردد الآيات [ليعلم] كل مزدجره. أو يقول: كيف نصرف الآيات ليعلم كل صدقها وحقيقتها أنها من الله جاءت.
{ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }: يحتمل وجوهاً:
صرفها ليفقهوا، وذلك يرجع إلى المؤمنين خاصة.
والثاني: { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }، أي: ليلزمهم أن يفقهوا، وقد ألزم الكل أن يفقهوا، لكن من لم يفقه إنما لم يفقه؛ لأنه نظر إليه بعين الاستخفاف.
والثالث: { نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } أي: نصرف الرسل ونبلغها إليهم على رجاء أن يفقهوا، لكي يفقهوا؛ إن نظروا فيها وتأملوها.
وذكر { لَعَلَّهُمْ }؛ لأن منهم من فقه، ومنهم من لم يفقه.
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ }.
يحتمل به: القرآن، ويحتمل: بما ذكر من الآيات، ويحتمل: الإيمان به والتوحيد.
{ وَهُوَ ٱلْحَقُّ } وكذب به قومك.
وهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم؛ لأنك نشأت بين أظهرهم، فلم تأت كذباً قط، ولا رأوك تختلف إلى أحد يعلمك، فهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }.
قال عامة أهل التأويل: الوكيل: الحفيظ، والوكيل: هو القائم في الأمر، أي: لست بقائم عليكم؛ لأكرهكم على التوحيد والإيمان شئتم أو أبيتم، ولست بحافظ على أعمالكم إنما عليَّ التبليغ؛ كقوله:
{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99].
وقوله - عز وجل -: { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } قال بعضهم: لكل أمر حقيقة.
وقيل: لكل خبر غاية ينتهي إليها.
ويحتمل: أن يكون صلة قوله: { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }؛ { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ }، أي: لست عليكم بوكيل، لكن لكل نبإ مستقر في أن أغنم أموالكم وأسبي ذراريكم؛ كقوله:
{ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } [الغاشية: 22-23].
ويحتمل قوله: { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } أي: بما كان وعد وأوعد، والله أعلم.
وفي قوله: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنا نعلم أن للخلق حقيقة الفعل في القتل والحرب والأهواء المختلفة، ثم أضاف ذلك إلى نفسه؛ دل أن له صنعاً في أفعالهم، وليس كما تقول المعتزلة: إنه لا يملك ذلك.
وكذلك ما ذكر من إضافة تلبيس الشيع إليه رد لقولهم؛ لأنهم يقولون: هم يختلفون، وقد أخبر أنه هو يجعلهم شيعاً، وذلك ظاهر النقض عليهم؛ لأنه أخبر أنه يذيق بعضهم بأس بعض، وهم يقولون: هو لا يذيق ولكن ذلك القاتل أو الضارب أو المعذب هو يذيقهم دون رب العالمين؛ وكذلك قوله:
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة: 14]، وهم يقولون: هو لا يعذبهم ولكن الخلق يعذبونهم؛ وكذلك قوله: { أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [التوبة: 52]، وهم يقولون: هو لا يملك تعذيبهم بأيديهم، وذلك رد لظاهر الآية وتركها جانباً.