التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٧
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٦٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦٩
وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٧٠
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } [قيل] تأذن: أي: قال ربك: [ليبعثن].
وقال أبو عوسجة: { وَإِذْ تَأَذَّنَ } هو من الأذان، أي: أعلم ربك.
وقوله: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ... } الآية قال: نزلت هذه الآية بمكة في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الكفار كانوا يمنعون من دار الإسلام واتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - فوعدهم الله ليبعثن عليهم من يقاتلهم ويأخذ منهم الجزية إلى يوم القيامة؛ جزاء ما كانوا يمنعون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإجابة له فيما يدعو إليه.
وقال قائلون: هو في بني إسرائيل، وهو ما قال:
{ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ... } [الإسراء: 4] إلى قوله: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [الإسراء: 8] أخبر إن عادوا عدنا، ولم يبين إن عادوا عدنا بماذا، ثم بين في هذه الآية بقوله: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ }.
وقال قائلون: هذا إنما كان في هؤلاء الذين سبق ذكرهم في قوله:
{ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [الأعراف: 165].
قال أبو بكر الأصم: الآية لا تحتمل في هؤلاء؛ لأن من آمن منهم لا يحتمل ذلك، ومن صار منهم قروداً لم يحتمل - أيضاً - بعد ما صاروا قروداً، فهو - والله أعلم - على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ }.
يأخذهم في حال أمنهم، ليس كما يأخذ ملوك الأرض قومهم بعد ما يتقدم منهم إليهم تخويف، فعند ذلك يأخذونهم بالعذاب.
أو أن يقال: سريع العقاب، أي: عن سريع يأخذهم عقابه.
وقوله: { لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ }: لمن كفر وكذب، غفور رحيم: لمن آمن وصدق بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً }.
يحتمل: فرقناهم في وقت بعد ما كانوا مجموعين.
ثم يحتمل الجمع وجهين:
كانوا مجموعين ثم تفرقوا، فصار بعضهم كفاراً وبعضهم مؤمنين.
أو كانوا مجموعين في المكان والمعاش والماء والكلأ ثم تفرقوا، فصاروا متفرقين في المكان والمعاش وغيره.
أو كانوا في الدين واحداً، ثم صاروا أصحاب أهواء.
ويحتمل قوله: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } أي: أمة بعد أمة، وجماعة بعد جماعة، بعضهم خلفاء لبعض؛ على ما ذكر: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ }.
وقوله - عز وجل -: { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ }.
فإن كان قوله: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } في الدين والمذهب، فيكون تأويله: [منهم الصالحون المؤمنون، ومنهم دون ذلك الكفار، ويكون قوله: { دُونَ ذٰلِكَ } أي: غير ذلك كقوله يعيدونها دون الله أي:] غير الله.
وإن كان في المعاش، فبعضهم دون بعض في المعاش؛ وسع على بعض المعاش، وشدد على بعض وضيق، فيكون بعضهم دون بعض في المعاش والرزق.
أو بعضهم دون بعض في الدين، بعضهم على الصلاح، وبعضهم أصحاب أهواء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ }.
ابتلى بعضهم بالخصب والسعة، وبعضهم بالشدة والضيق؛ ليذكرهم الموعود من الثواب في الحسنات، ويزجرهم الموعود من العقاب عن السيئات.
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }.
يتوبون ويرجعون عن ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فهو يخرج على وجوه:
أحدها: بلوناهم بالنعم والخصب والسعة؛ ليعرفوا فضل الله وإحسانه فيرجعوا إليه بالشكر والثناء، و{ وَٱلسَّيِّئَاتِ }، أي: بالبلايا في أنفسهم أو المصائب والضيق؛ ليعرفوا قدرة الله وسلطانه، فيرجعوا إليه بالتضرع والفزع والدعاء والتوبة.
والثاني: معناه: أي: بلوناهم بالحسنات والسيئات؛ ليتقرر عندهم أن غيرهم أملك بهم من أنفسهم، فيرجعوا إليه [بتسليم] النفس لأمره وحكمه.
والثالث: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } المؤمن منهم والكافر، حتى إذا رأوا الاستواء في الدنيا وفي الحكمة التفريق بينهم، فيضطر الجميع إلى الإيمان بالبعث؛ إذ خروجهم من الدنيا على سواء.
والرابع: أنه إنما جعل النعيم في الدنيا ليعرفوا لذّة الموعود في الآخرة، وكذلك الشدة، فابتلاهم بالأمرين جميعاً؛ ليستعدوا للرجوع إلى الموعود لهم في الآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ }.
قال قائلون: هو صلة قوله: { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ }، والصالحون هم الذين آمنوا بالله، وحفظوا حدوده وحلاله وحرامه، { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } يعني: الصالحين { فَخَلَفَ } لم يحفظوا حدوده ومحارمه.
وقال قائلون: هو صلة ما تقدم من ذكر الأنبياء والرسل؛ كأنه أخبر أنه خلف من بعدهم خلف، يعني: خلف الرسل والأنبياء { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } وهو كما ذكر في سورة مريم، وهو قوله:
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ } [مريم: 59] وإنما ذكر هذا من بعد ذكر الأنبياء والرسل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } علموا ما فيه.
{ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ }.
إن أهل الكتاب كانوا يأخذون الدنيا على أحد وجوه ثلاثة:
منهم من كان يأخذها مستحلاًّ لها؛ كقوله - تعالى -:
{ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ } [مريم: 59].
وكقوله:
{ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة: 34].
ومنهم من كان يأخذها بالتبديل، أعني: تبديل الكتاب؛ كقوله:
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ... } الآية [آل عمران: 78]، وقوله: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرةِ: 79].
ومنهم من كان تناول على ما تناول أهل الإسلام على قدر الحاجة، وهاهنا لا يحتمل الأخذ إلا أخذ الاستحلال أو التبديل، والأخذ بالاستحلال - هاهنا - أقرب، كانوا يأخذون عرض هذا الأدنى مستحلين له.
{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } يحتمل هذا وجوهاً:
يحتمل ما قالوا:
{ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18].
فيغفر لنا؛ كانوا يستحلون أموال الناس ويأخذونها، ثم يقولون: سيغفر لنا؛ لأنا أبناء الله وأحباؤه.
والثاني: يحتمل أنهم قالوا: سيغفر لنا، مع علمهم أنه لا يغفر لهم؛ لما كان في كتابهم ألاّ يغفر لهم إذا تناولوا مستحلين.
أو أنهم إذا عوتبوا على ما فعلوا قالوا: سيغفر لنا.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }.
يحتمل قوله: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ } أنهم إذا استحلوا ذلك أضافوا ذلك إلى الله، وقالوا: الله أمرنا بذلك، فقال: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، أي: لا يضيفوا إلى الله ما استحلوا.
أو أن يقال: أخذ عليهم ألاّ يقولوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
وقال بعضهم: قوله: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } فيما يوجبون على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يزالون يعودون لها، ولا يتوبون عنها.
قال بعضهم: قوله: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } قال: يأخذونه إن كان حلالاً أو حراماً { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ }، وقال: قوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } سوء { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } بعد أنبيائهم، ورثهم الله الكتاب، وعهد إليهم في سورة مريم
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ } [مريم: 59] { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ }، وهو ما ذكرنا.
وقال القتبي: الخلف: الرديء من الناس ومن الكلام؛ يقال: هذا خلف من القول.
وقوله - عز وجل -: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }.
أي: قرءوا ما فيه وعلموه.
{ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }.
أي: يتقون الشرك، أو يتقون مخالفة الله ومعاصيه، أفلا يعقلون ما في كتابهم أن ترك مخالفة الله خير في الآخرة.
ثم أخبر عن المؤمنين فقال: { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ } ما فيه من الحلال، والحرام { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِين }.