التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٢٠٤
وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ
٢٠٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
٢٠٦
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ... } الآية.
أمر الله - تعالى - بالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له إذا قرئ وإن كان في العقل أن من خاطب آخر بمخاطبات يلزمه الاستماع إلى ما يخاطبه ويشافهه، فالله - سبحانه - إذا خاطب بخطاب أولى أن يستمع له مع ما ذكر في غير موضع من القرآن آيات ما يوجب في العقل الاستماع إليه؛ كقوله: { هَـٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً }، وقوله:
{ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [الأعراف: 3] وغير ذلك من الآيات، ولا سبيل إلى أن يعرف أنه بصائر، وأنه هدى وما ذكر إلا بالاستماع إليه والتفكر فيه؛ فدل أن الاستماع لازم في العقل من له أدنى عقل؛ على ما ذكرنا من المخاطبات، لكنه ذكر - هاهنا - الاستماع إليه - والله أعلم - لوجهين:
أحدهما: مقابل ما كانوا يقولون:
{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ } [فصلت: 26] أمر - عز وجل - المؤمنين بالاستماع إليه مكان قولهم: { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } [فصلت: 26]، وأمر بالإنصات مكان ما يقولون: { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26].
والثاني: يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة؛ على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.
وقال بعضهم: في حال الخطبة؛ لما يسبق إلى أوهامهم أنه لما اشتغلوا بغيرها من العبادات ولزموا أنواع القرب أن يسقط عنهم حق الاستماع، فأمر بالاستماع إليه، والإنصات له؛ ليعلموا أن حق الاستماع لازم في كل حال.
ثم الاستماع إليه يكون لتفهم ما أودع فيه من الأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وغيره، والإنصات للتعظيم والتبجيل.
ثم الاستماع له لم يلزم لنفس التلاوة، ولكن إنما يلزم لما أودع فيه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغيره؛ ليفهموا ما فيه، ويقبلوه، ويقوموا بوفاء ذلك، وأمّا سائر الأذكار إنما صارت عبادة لنفسها؛ لذلك لم يلزم الاستماع إلى سائر الأذكار، ولزم لتلاوة القرآن.
ولأن القرآن كلام الله وكتابه، ومن الجفاء والاستخفاف أن يكتب إنسان إلى أخيه كتاباً لا ينظر فيه ولا يستمع له؛ فترك الاستماع إلى كتاب الله أعظم في الجفاء والاستخفاف.
ولأن القرآن يجهر به، وسائر الأذكار لا تجهر، فإن كنت تجهر فيستمع لها كما يستمع إلى القرآن، والله أعلم.
وذكر في بعض القصة أن الآية نزلت في الصلاة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل [ما قال]، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له.
وذكر أنهم كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار؛ فنزلت الآية لذلك، فلا ندري كيف كانت القصة؛ وفيم كانت؟ وقد يحتمل ما ذكرنا آنفاً.
ثم إن كانت الآية في الصلاة ففيه دلالة النهي عن القراءة خلف الإمام؛ لأنه أمر بالاستماع إليه والإنصات له، وعلى ذلك جاءت الأخبار؛ روي عن أبي العالية قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزل: { قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } فسكتوا.
وعن علباء بن أحمر
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الفجر الواقعة، وقرأها رجل خلفه، فلما فرغ من الصلاة قال: من الذي ينازعني في هذه السورة فقال رجل: أنا يا رسول الله؛ فأنزل الله: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }" وغير ذلك من الأخبار.
فقال قوم: إن الإنصات الذي أمر به المؤتم معناه ألا يجهر بقراءته، وليس فيه نهي أن يقرأ في نفسه.
وزعم بعضهم أن القارئ خفيّاً يسمى ناصتاً [ومنصتاً]، واستدل بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
"[قال كان] رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قلت: بأبي أنت، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة، أخبرني ما تقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق" وغير ذلك من الدعوات، فقال هذا القائل: قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم القارئ مخفياً ساكتاً، والصامت مثل الساكت، فيجوز أن يسمى صامتاً، وهو أن يقرأ مخفياً، كما يسمى ساكتاً.
قال القتبي: غلط هذا القائل في تشبيه الصامت بالساكت؛ لأن الأسماء لا تقاس، وإنما يطلق في كل واحد منهما ما أطلقته اللغة فيه.
ومما يبين غلطه أن الله يقول: { فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }، فلو كان القارئ مخفياً يسمى صامتاً ناصتاً ما كان مستمعاً، وإنما يكون مستمعاً صامتاً إذا صمت فلم يقرأ؛ فمن أطلق له أن يقرأ والإمام يقرأ فلم يستمع، ولا أنصت.
ومما يدل على غلطه - أيضاً - أن العلماء جميعاً ينهون المؤتم عن القراءة وإمامه يجهر بالقراءة، وإنما يأمر من يأمره بالقراءة خلف الإمام أن يقرأ إذا سكت إمامه، ويأمر هؤلاء الإمام أن يقف ساعة إذا فرغ من قراءته حتى يقرأ المؤتمون، فلو كانوا يجعلون القارئ في نفسه والإمام يقرأ جهراً صامتاً ما أمروه بتأخير القراءة حتى يفرغ إمامه من القراءة؛ فهذا يبين غلط المستدل بحديث أبي هريرة في استدلاله.
ومما يدل على أن المؤتم منهي عن أن يقرأ والإمام يجهر ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة - فظن أنها الصبح - فلما سلم أقبل على الناس، قال: هل يقرأ أحد منكم؟! فقال رجل: أنا، فقال النبي: إني أقول: مالي أنازع القرآن قال أبو هريرة: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم" .
فقال قوم: إن أبا هريرة قال: انتهى الناس عن القراءة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه.
فيقال: إن أبا هريرة لم يرو ذلك عن النبي.
ثم مما يدل [على] أن المؤتم لا يقرأ جهر الإمام أو خَافَتَ قول النبي: "مالي أنازع القرآن؟" وقد علمنا أن المؤتم لم يجهر بقراءته؛ فيتأول متأول منازعته النبي صلى الله عليه وسلم على أنه شغله؛ فلا وجه لقوله: "مالي أنازع القرآن؟" إلا بنهيه المؤتم عن أن يقرأ، جَهَرَ إمامُه أو خَافَتَ.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين النهي عن القراءة خلف الإمام فيما [يجهر فيه أو يخافت]: ما روي عن عمران
"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الظهر، فلما قضى صلاته قال: أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى؟ فقال بعض الناس: أنا يا رسول الله، فقال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها" .
فبين عمران بن حصين أن الرجل خافت بقراءته؛ دل أن النهي الذي رواه أبو هريرة لم يكن في حال جهر الإمام دون مخافتته، وأن المؤتم منهي عن القراءة خلف الإمام في كل الصلوات.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن القراءة خلف الإمام أحاديث كثيرة: [منها:] ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمران بن حصين عنه، وما روي عن عبد الله:
"كنا نقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم: خلطتم على القرآن" .
فإن قيل: لعلهم كانوا يجهرون بالقرآن، فنهى عن الجهر.
قيل له: لم ينقل [لنا] في شيء من الأخبار أن المؤتمين كانوا يقرءون جهراً، ولو كانوا يقرءون جاهرين، لأدّي ذلك إلينا كما أدّي أنهم كانوا يقرءون.
وفي ذلك وجه آخر: أنه لم يكن النهي عن الجهر خاصة، ولكن للقراءة نفسها ما روي عن أبي وائل قال: سألت عبد الله ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت، فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الإمام.
وعن عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" .
وعن جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله علي وسلم صلَّى ورجل خلفه يقرأ، فنهاه رجل من أصحاب النبي عن القراءة في الصلاة، فتنازعا فيه، حتى ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة" .
وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قرأ الإمام فأنصتوا" .
وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" وغير ذلك من الأحاديث.
وأكثر ما يحتج به المخالف لعلمائنا - رحمهم الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن" يرويه عبادة ابن الصامت.
قال سفيان: هذا عندنا فيمن يصلي وحده؛ فذلك يحتمل، والأحاديث التي جاءت مفسرة في النهي عن القراءة خلف الإمام.
فإن قال: يترك المؤتم القراءة فيما يجهر فيه إمامه بحديث أبي هريرة، ويقرأ فيما يخافت بحديث عبادة بن الصامت؛ ليصلح حديث أبي هريرة وحديث عبادة جميعاً.
قيل له: فهلا جعلته في المصلى وحده ليصح حديث عبادة، وحديث عمران بن حصين؛ لأن حديث عمران [بن حصين] ينهى عن [القراءة خلف الإمام] فيما خافت، وحديث أبي هريرة عن القراءة فيما يجهر فيه؛ فإن جعلت حديث أبي هريرة خارجاً عن عموم حديث عبادة، فذلك يوجب ألاَّ يقرأ المؤتم فيما يجهر فيه إمامه ويخافت، ويقال له: هل رأيت فرضاً من فرائض الصلاة يسقط عن المؤتم في حال، ويجب عليه في حال؟
فإن قال: لا.
قيل: ففي إسقاطك تلك القراءة عنه في حال الجهر ما أوجب عليك أن تسقطها عنه في حال المخافتة.
وقد احتج بعض أصحابنا في ذلك بأن قالوا: وجدنا الرجل إذا جاء إلى الإمام وهو راكع فكبر ودخل في صلاته ولم يقرأ، فكل يجمع أن صلاته تجزئة، فدل ذلك أن القراءة غير فرض عليه.
فإن قال: إنما أطلق له ذلك للضرورة.
قيل: لو جاء إلى الإمام وهو ساجد، لم يعتد بتلك الركعة والضرورة قائمة، فلو كانت الضرورة تزيل فرضاً لأزالت الركوع عمن لحق إمامه وهو ساجد، فهي لا تزيل فرض القراءة عمن لحق إمامه، ولكن لا يلزمه القراءة خلف الإمام؛ فلذلك أجزأته صلاته لا للضرورة التي ذكرت، والله أعلم.
وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: لا قراءة على من خلف الإمام، منهم: علي، وابن مسعود، وجابر، [وسعد]، وأبو سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم.
أما عن علي - رضي الله عنه - قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة.
وعن عبد الله قال: من قرأ خلف الإمام ملئ فوه تراباً.
وعن زيد بن ثابت قال: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له.
وعن سعد قال: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فمه جمرة.
وعن ابن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ خلف الإمام، قال: لا، فإذا صلى أحدكم وحده فليقرأ.
وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام.
وعن أبي سعيد أنه سئل عن القراءة خلف الإمام، قال: يكفيك ذلك الإمام.
وعن ابن عباس أن رجلاً سأله: أقرأ خلف الإمام؟ قال: لا.
إلى مثل هذه الأحاديث ذهب أصحابنا، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ }.
اختلف أهل التأويل في الذكر الذي ذكر في الآية؛ منهم من صرف التأويل إلى كل ذكر.
ومنهم من صرفه إلى التلاوة؛ فإن كان ذكر الغدو والآصال كناية عن الليل والنهار فهو ذكر أحواله يذكر الله - عز وجل - بنعمه وإحسانه، وذكره بنعمه شكره، أو يذكره بقدرته وسلطانه، وذلك يحمله على الخضوع له والتواضع، أو يذكر أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وذلك يوجب الإقرار بالتقصير، والخوف لعقوبته، والرغبة في وعده؛ كأنه قال: واذكر ربك في كل حال من الليل والنهار إما شكراً لنعمه وإحسانه، وإما الإقرار بالتقصير في أمره ونهيه، وإما الخوف [لوعيده، وإما الرغبة] لوعده، فكأنه قال: اذكر ربك تضرعاً وتواضعاً وخيفة مع الخوف.
وإن كان تأويل الغدو والآصال كناية عن الغداة والعشي، فهو كناية عن التلاوة، وهو ما سبق من ذكر التلاوة من قوله: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ } وقوله:
{ هَـٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى } [الأعراف: 203]، وهو كقوله: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء: 110] وتأويله - والله أعلم -: ولا تجهر بصلاتك في بعض صلاتك، ولا تخافت في بعضها.
أو أن يقال: لا تجهر الجهر العالي، ولا تخافت غاية المخافتة، ولكن بين ذلك.
أو أن يقول: لا تشتغل بالجهر، ولا بالمخافتة، ولكن اقرأ لما فيه، فعلى ذلك قوله: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ }.
وقرأ بعضهم: (وخفية) وهو من الإخفاء؛ حيث قال: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ }، وأما ظاهر القراءة فهو { وَخِيفَةً }، وهو من الخوف.
وقال مجاهد: رخص الله أن تذكره في نفسك تضرعاً وخيفة، وأنت خلف الإمام تسمع قراءته.
{ وَٱلآصَالِ }، قال أبو عوسجة: العشيات، الواحد: أصل وأصيل.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ }.
معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من الغافلين في حال، ولكن على النهي لأمته؛ كقوله:
{ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [البقرة: 147]، و { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14] ونحوه، نهاه أن يكونن ما ذكر؛ لما ذكرنا نهياً لغيره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ }.
قالت المشبهة: لو لم يكن [بين الله] وبين الملائكة قرب الذات لكانوا هم والبشر بقوله: { عِندَ رَبِّكَ } سواء، لكان لا معنى لتخصيص الملائكة بذلك.
لكن التأويل عندنا في قوله: { عِندَ رَبِّكَ }: في الطاعة والخضوع، أو في الكرامة والمنزلة، ليس على قرب الذات، ولكن على ما وصف - عز وجل -:
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]، وقوله: { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 19-20] وصفهم بالطاعة له والخضوع؛ فعلى ذلك الأول، ليس على قرب الذات، ولكن على ما ذكر من الطاعة والخضوع.
ألا ترى أنه قال:
{ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق: 19] ليس على أنه في الأرض يقترب منه إذا سجد؟!.
وأصل ما يضاف إلى الله من جزئية الأشياء يخرج مخرج تعظيم تلك الجزئيات؛ كقوله:
{ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } [الجن: 18] خصّ المساجد بالإضافة إليه، وإن كانت البقاع كلها له؛ تعظيماً لها، وكذلك قوله: الكعبة بيت الله الحرام، وإن كانت البيوت كلها له، ونحو ذلك مما أضاف ذلك إلى نفسه من جزئيات الأشياء؛ تعظيماً لذلك وإجلالا؛ فعلى ذلك الأول، أضافهم إلى نفسه إما لطاعة لهم إياه والخضوع، وإما لكرامة لهم والمنزلة، وإضافة كلية الأشياء إلى الله تخرج مخرج تعظيم الربّ؛ من ذلك قوله: { لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف: 54] وقوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 29]، وقوله: { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16].
ومن الناس من استدل بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية؛ لكنا نقول: إن الأفضل عند الله الأطوع له والأخضع والأتقى والأقوم لأمره ونهيه؛ على ما ذكرنا:
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13] لا نشير أن هؤلاء أفضل من هؤلاء، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم.
وتأويل الآية - والله أعلم - في قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ... } الآية، أي: إنهم وإن لم تكن لهم حاجة إلى المأكل والمشرب وأنواع الحاجات لا يستكبرون عن عبادته، فأنتم مع حاجتكم إلى الأكل والشرب وأنواع الحوائج أحرى وأولى ألا تستكبروا عن عبادته.
أو أن يقول: إن الذين تعبدون من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، فأنتم أحق ألا تستكبروا عن عبادته؛ لأن من الناس من يعبد الملائكة، فخرج هذا جواب ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيُسَبِّحُونَهُ }.
التسبيح: هو وصف الرب - عز وجل - بالرفعة، والعظمة والجلال، والتعالي عن الأشباه والأمثال، وعما وصفه الملحدون.
والتسبيح: هو تنزيه الرب وتبرئته عن جميع معاني الخلق.
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُ يَسْجُدُونَ }.
السجود: هو الخضوع في الغاية، وليس في الآية دليل وجوب السجدة على من تلاها أو سمعها، إنما فيها الإخبار عن الساجدين أنهم سجدوا غير مستكبرين، وفي ذلك ترغيب في السجود، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم روي أنه سجد وسجد من معه.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضعاً يسجد فيه" .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص" .
وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في غير صلاته، فيسجد ونسجد معه" .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ولم يبق معه أحد إلا سجد، إلا شيخ كبير من قريش أخذ كفّاً من جص فرفعه إلى جبهته، فلقد رأيته قتل كافراً" .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه ذكر سجود القرآن - أو عدّ - فقال: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، والحج - سجدة واحدة - والفرقان، وطس، وآلم [تنزيل]، وص، وحم [تنزيل] وقال: وليس في المفصل سجود.
وعن ابن مسعود قال في السورة يكون في آخرها السجدة نحو الأعراف والنجم: إن شئت فاسجد ثم قم فاقرأ، وإن شئت فاركع.
وعن ابن مسعود: كان يسجد في الأعراف، وفي بني إسرائيل، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك.
واحتج بعض مشايخنا أن السجود على من تلا آية السجدة واجب: بما أجمع أهل العلم أن على المصلي إذا تلا الآية فيها السجدة أن يسجد في صلاته، فلو كان السجود تطوعاً ما كان لأحد أن يزيد في صلاته ما ليس منها؛ فدل ذلك على أن السجود واجب في الصلاة، وإذا كان في الصلاة واجباً فهو على كل واجب.
ومن الحجة لنا - أيضاً - ما روي أن النبي - عليه السلام - قرأ آيات فسجد فيها، فكان السجود فيها واجباً، كما أنه لما صلى صلاة العيدين كانت واجبة.