التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٢٦
يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٧
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل: { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ }.
قال ابن عباس - رضي الله عنه - والحسن: أنزلنا ماء القراح من السماء ليتخذ منه اللباس ما يواري عوراتهم، ويتخذ منه الطعام والأشياء التي بها قوام أنفسهم.
ويحتمل قوله: { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } أنزل الماء والأسباب التي بها يتخذ اللباس والأطعمة والأشربة، والعلم في ذلك الماء والأسباب، والعلم بذلك، وإلا ما عرف الخلق أن كيف يتخذ ذلك لباساً والأطعمة والأشربة.
وفيه دليل إثبات الرسالة؛ لأنهم لم يعرفوا ذلك إلا بوحي من السماء.
أو أن يكون قوله: { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً }، أي: جعل لكم وأنشأ لكم ما تتخذون منه اللباس والطعام والشراب ليس على الإنزال، ولكن على أن جعل لكم ذلك؛ كقوله:
{ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [غافر: 79].
وقوله:
{ جَعَلَ لَكُمْ } [النحل: 80]، أي أنشأ لكم { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [النحل: 81]، وهو أن خلق لنا ذلك.
وفيه دليل خلق أفعال الخلق؛ لأنه إنما صار طعاماً بفعل من العباد [لا] أنه أنزل من السماء هكذا، ثم أخبر أنه جعل ذلك لنا، دل أنه خلق فعل الخلق فيه.
وقوله - عز وجل -: { وَرِيشاً }، قال بعضهم. مالاً.
وقال بعضهم: معاشا.
وقال القتبي: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، وريش ما ستر به.
وقوله - عز وجل -: { وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ }.
في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: { وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ }، بالرفع على الابتداء أي لباس التقوى خير، ومن نصبه - أيضاً - فإنما ينصبه على الجواب لما تقدم؛ وإلا الحق فيه الرفع.
ثم اختلف فيه أهل التأويل قال الحسن: لباس التقوى: الدين.
وقال أبو بكر الأصم: القرآن.
وقيل: العفاف.
وقيل: الحياء.
وقيل: الإيمان، فكله واحد، أي: كل ما ذكر من لباس التقوى خير من اللباس الذي ذكر؛ لأن الدين والإيمان والقرآن والحياء يزجره ويمنعه من المعاصي فهو خير لأنه لباس في الدنيا والآخرة؛ لأن المؤمن التقي العفيف الحيي لا يبدو له عورة، وإن كان عارياً من الثياب [وأن الفاجر لا يزال] تبدو منه عورته، وإن كان كاسياً من الثياب، لا يتحفظ في لباسه؛ [فلباس] التقوى خير، وهو كقوله
{ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [البقرة: 197] هذا التأويل للقراءة التي تقرأ بالرفع: { وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ } على الابتداء.
وأمّا من قرأ بالنصب فهو رده إلى قوله: { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً }، ثم أنزلنا عليكم - أيضاً - لباساً تتقون به الحرّ والبرد والأذى؛ فيكون فيه ذكر لباس سائر البدن، وفي الأول ذكر لباس العورة.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ }.
يحتمل قوله: { ذٰلِكَ } الذي اتخذ منه اللباس والأطعمة والأشربة من آيات الرسالة؛ لأن كل ذلك إنما عرف بالرسل بوحي من السماء، وهو ما ذكرنا أن فيه دليل إثبات الرسالة.
ويحتمل ذلك من آيات الله أي: من آيات وحدانية الله وربوبيته؛ لما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما؛ دل ذلك أن منشئهما ومدبرهما واحد؛ لأنه لو كان تدبير اثنين، ما اتسق تدبيرهما؛ لاتصال منافع أحدهما بالآخر.
وقوله - عز جل -: { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }.
أي: لعلهم يوفقون للتذكير، ولعلهم يتقون، أي: لعلهم يوفقون للتقوى، ولعلهم يوفقون للشكر لأنه حرف شك هذا يحسن أن يقال، والله أعلم، أو نقول: لكي يلزمهم التذكر والتشكر.
وقوله - عز وجل -: { يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ }.
قال بعضهم: خاطب به أهل مكة في تكذيبهم رسول الله ومخالفتهم أمره في ألاّ يخرجكم من الأمن والسعة، كما أخرج أبويكم من دار الأمن والسعة.
وقال بعضهم: قوله: { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } أي: احذروا دعاءه إلى ما يدعوكم إليه؛ فإنه يمنع عنكم في الآخرة الكرامة والثواب؛ كما أخرج أبويكم من دار الكرامة والمنزلة.
وقال أهل التأويل { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ }، أي: لا يضلنكم الشيطان ويغويكم، كما فعل بأبويكم: أخرجهما من الجنة.
وقال آخرون: قوله: { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } بما تهوى أنفسكم، ومالت إلى شهواتها وأمانيها، كما أخرج أبويكم من الجنة بما [هوته أنفسهما، واشتهائهما] يحذرهم اتباع هوى النفس وشهواتها وأمانيها؛ فإن السبب الذي به كان إخراجهما هو هوى النفس وأمانيها.
وقوله - عز وجل -: { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا }.
يحتمل قوله: { يَنزِعُ } [أي: نزع] عنهما لباسهما وهذا في القرآن كثير يفعل بمعنى فعل.
ويحتمل على الإضمار؛ كأنه قال: أراد أن ينزع عنهما لباسهما؛ ليريهما سوءاتهما، وقد ذكر أن المفروض من الستر هو ستر العورة لا غير، احتيج إليه أو لم يحتج، وأمّا غيره من الستر فإنما هو لدفع الأذى من الحرّ والبرد [أو للتجمل] والمفتون بالشيء هو المشغوف به والمولع به.
يقول: لا يمنعنكم عن دخول الجنة، كما أخرج أبويكم من الجنة، وكان قصده ما ذكر من نزع اللباس وإبداء العورة وهو ما ذكر.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }.
قيل: قبيله: جنوده وأعوانه، حذرنا إبليسَ وأعوانَه؛ بما يروننا ولا نراهم، فإن قيل: كيف كلفنا محاربته، وهو [بحيث لا نراه وهو يرانا ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو لا نقدر القيام بمحاربته وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه قيل إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم؛ إذ لم يجعل] له السطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكر، نحو قوله:
{ وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ... } [الأعراف: 200] الآية، وقوله - تعالى -: { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } [المؤمنون: 97]، وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ } [الأعراف: 201] علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب جعلت لنا، فهذا يدل على أن الله يجوز أن يكلفنا بأشياء لم يعطنا أسباب تلك الأشياء، بعد أن جعل في وسعنا الوصول إلى تلك الأسباب، وإن لم يكن [لنا] وقت التكليف تلك الأسباب، من نحو: الأمر بالصلاة، وإن لم نكن على الطهارة؛ إذ جعل في وسعنا الوصول إلى الطهارة، ونحو الأمر بأداء الزكاة، وإن لم يكن وقت الأمر من نؤدي إليه حاضراً، أو نحو الأمر بالحج وغيره من العبادات، وإن كان لا يصل إلى أداء ما افترض عليه إلا بعد أوقات مع احتمال الشدائد، وهذا يرد - أيضاً - على من يقول: إنه لا يلزم الأوامر والمناهي من جهلها، ولا يكلف إلا بعد العلم بها؛ لأنه يتكلف حتى لا يلزمه فرض من فرائض الله وعبادة من عباداته؛ لأنه لا يكسب أسباب العلم؛ لئلا يلزمه ذلك، فهذا بعيد محال، والوجه في ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
اختلف أهل الاعتزال فيه؛ قال أبو بكر الأصم: الجعل من الله على وجوه:
أحدها: السبب أي: أعطينا لهم السبب الذي به صاروا أولياء لهم، كما يقول الرجل لآخر: جعلتُ لك الدار والعبيد والمال، وهو لم يجعل له ذلك، ولكن أعطاه ما به صار ذلك، وهو إنما أعطاه سبب ذلك؛ فيضاف ذلك إليه؛ فعلى ذلك ما أضاف الجعل إليه؛ لما أعطاه السبب.
وقال جعفر بن حرب: "الجعل" هو التخلية، خلى بينهم وبين أولئك؛ فأضاف ذلك إليه بالجعل، كما يقال للرجل: جعلت عبدك قتالاً ضراباً، إذا خلى بينه وبين ما يفعله، وهو قادر على منعه؛ [عن ذلك] فعلى ذلك فبما أضاف الجعل إلى نفسه: هو أن خلى بينهم وبين أولئك، يعملون ما شاءوا.
وقال الحسن: من حكم الله أن من عصى يكون عدوّاً له، ومن أطاع يكون وليّاً له، ومن أطاع الشيطان فهو وليه، ومن عصاه يكون عدوّاً له؛ فكذا حكم الله - تعالى - في كل من أطاعه يكون وليّاً له، ومن عصاه يكون عدوّاً له.
وقال غيرهم من المعتزلة قوله: { جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }، أي: وجدناهم كذلك أولياء لهم.
ولكن لو جاز إضافة ذلك إلى الله - تعالى - كما ذكر هؤلاء - لجاز إضافة ذلك إلى الأنبياء؛ لأنه قد كان منهم التخلية في ذلك، والتسمية لهم بذلك، والحكم على ما قال الحسن، فإذا لم يجز إضافة ذلك إليهم؛ دل أنه قد كان من الله في ذلك صنع لم يكن ذلك من الأنبياء، وهو أن خلق منهم فعل الولاية لهم؛ لما علم منهم أنهم يختارون ولايتهم ويتولونهم؛ كقوله:
{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [النحل: 100]، وبالله العصمة والنجاة.