التفاسير

< >
عرض

وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَٰتِنَا يَجْحَدُونَ
٥١
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٥٢
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٥٣
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ }.
قال الحسن: الماء مما رزقهم الله، ولكن مكرر مثنى.
وقال أبو بكر: طلبوا الماء؛ ليدفعوا عن أنفسهم ما اشتد بهم من الظمأ والعطش، ثم تقع لهم الحاجة إلى الطعام؛ لأن الرجل إذا اشتد به العطش والظمأ لا يتهيأ له الأكل.
ولكن يشبه أن يكون طلب بعضهم الماء وبعضهم الطعام الذي رزقهم الله، وهذا جائز، وإن لم يذكر؛ كقوله:
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111]، لم يكن هذا القول من الفريقين؛ ولكن كان من اليهود { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً }، ومن النصارى: { أَوْ نَصَارَىٰ }، فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }.
قيل: هذا مقابل قولهم في الدنيا للمؤمنين:
{ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } [يس: 47]، قال لهم المؤمنون في الآخرة مقابل ما قالوا لهم في الدنيا: { إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }.
وهذا - والله أعلم - ليس على التحريم، ولكن على المنع؛ لأن الكفرة لا ينالون بعد أن نالوا ذلك حراماً كان أو حلالاً، ولكن على المنع؛ كقوله - تعالى -:
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ } [القصص: 12] ليس هو تحريم حرمة أكل، ولكن منع، ويشبه أن يكون ذلك محرماً على المؤمنين إطعام الكافرين من ذلك.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً }.
قال الحسن: اتخذوا دينهم الذي كلفوا به وأمروا أن يأتوا به لهواً ولعباً.
وجائز أن يكون قوله: { ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً } أي: اتخذوا دينهم الملاهي التي كانوا يلهون ويلعبون؛ كقوله:
{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال: 35] أي: اتخذوا دينهم الذي دانوا به لهواً ولعباً؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، وفي إنكارهم البعث إنكار الجزاء للحسنات والسيئات، وفي الحكمة إيجاب ذلك، فمن لم ير ذلك فهو لاه ولاعب، واللهو واللعب هو الذي لا عاقبة له، وكل من عمل عملاً لا عاقبة له فهو لعب ولهو، وكل من يعمل لعاقبة فهو ليس بلعب ولا لهو، وهم كانوا يعملون لا لعاقبة؛ لذلك كان لهواً ولعباً.
وقوله - عز وجل -: { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا }.
قال بعضهم: إن الحياة الدنيا لا تغر أحداً، ولكن أضيف إليها التغرير لما كانت سبباً من أسباب الاغترار بها، فأضيف إليها؛ كقوله:
{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 6] أضاف الفرار إلى الدعاء، وقد يضاف الشيء إلى سببه؛ كقوله: { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [يونس: 67]، أي: يبصر به.
وقال بعضهم: أضيف ذلك إليها؛ لما كان منها من السبب من الهيئة ما لو كان ذلك من ذي العقل والتمييز كان ذلك غروراً؛ من نحو التزيين وغيره.
وجائز إضافة التغرير إليها على إرادة أهلها، أي: غرهم أهلها، وهم القادة والرؤساء.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا }.
لا يجوز أن يضاف النسيان إلى الله - تعالى - بحال، ولكن يجوز أن يقال: يجزيهم جزاء نسيانهم، فسمي الثاني باسم الأول، وإن لم يكن الثاني نسياناً؛ نحو قوله:
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] والثانية ليست بسيئة، ولكن جزاء السيئة، لكنه سماها باسم السيئة؛ لما هي جزاء لها؛ فعلى ذلك هذا، وكقوله: { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [البقرة: 194]، والثاني ليس باعتداء، ولكنه جزاء الاعتداء، فسماه باسم الاعتداء؛ لما هو جزاؤه؛ فعلى ذلك سمى الثاني نسياناً؛ لأنه جزاء النسيان، وإن كان الله لا يجوز أن ينسى، أو يسهو عن شيء، أو يغفل، ولأن في النسيان تركاً، وكل منسي متروك، فيتركهم في العذاب والهوان كما تركوا هم أمر الله ونهيه في الدنيا.
وقال الحسن: إن الله لا ينسى شيئاً ولا يسهو، ولكن الكفرة يكونون على الكرامة والرحمة والمنزلة كالشيء المنسي، وعن العذاب والهوان لا، أو كلام نحو هذا.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانُواْ بِآيَٰتِنَا يَجْحَدُونَ } قال بعضهم: "ما" هاهنا صلة؛ كأنه قال: وكانوا بآياتنا.
وقال بعضهم: هو على ما ذكر، أي: اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، [وكما كانوا] بآياتنا يجحدون.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } [يحتمل بكتاب].
[أي]: بيّناه؛ والتفصيل: التبيين.
ويحتمل قوله: { فَصَّلْنَاهُ } أي: فرقناه في إنزاله، لم ننزله جملة واحدة؛ كقوله:
{ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ } [الإسراء: 106] أي: فرقناه في الإنزال على قدر النوازل بهم؛ ليعلموا حكم كل آية نزلت بالنوازل التي وقعت بهم، لا تقع لهم الحاجة إلى معرفة ما في كل آية نزلت عليهم على حدة، بل يعرفون ذلك بالنوازل.
أو أنزله مفرقاً.
أو أن يكون معرفة ما فيه من الأحكام إذا كان منزلا بالتفاريق أهون وأيسر على الطباع من معرفة ما فيه إذا نزل جملة.
ثم قوله: { فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } يحتمل وجوهاً:
يحتمل: فصلناه، أي: بيناه بالحجج والبراهين على علم منه أن الخلائق لا تقوم بإتيان مثله؛ ليعلم أنه من عنده نزل.
أو أنزله مفصلاً على علم منه بمن يصدقه ويتبعه، وبمن يكذبه ولا يتبعه.
أو على علم منه بمصالح الخلق إن أنزله صلح الخلق، أي: على علم منه بمعاملة القوم إياه أنزله؛ لأن المنفعة في إنزاله للمنزل عليهم، لا للمرسل والمنزِّل، فضرر الرد والمنفعة لهم.
وقوله - عز وجل -: { هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } قال أبو بكر: هو هدىً للكل: للمؤمن والكافر جميعاً، ورحمة للمؤمنين خاصة.
وأمّا عندنا: فهو هدىً للمؤمنين، وعمى على الكافرين؛ على ما ذكر:
{ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت: 44] خص المؤمنين بالهدى لهم؛ لأنهم هم المخصوصون بالانتفاع به دون أولئك، وعلى أولئك عمى ورجس؛ على ما ذكر، وصار للمؤمنين حجة على أولئك، وقوله: { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] هذا للكافرين، وقال للمؤمنين: { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } [آل عمران: 173].
وقوله - عز وجل -: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي: ما ينظرون إلا وقوع ما وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من نزول بأس الله بهم، أي: لا يؤمنون إلا بعد وقوع البأس بهم، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت: { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ }، والتأويل هو ما ينتهي إليه الأمر ويئول، وما يقع بهم من البأس الموعود لهم، وإيمانهم ما ذكر من قولهم: { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ }، يعني: بالحق الواقع بهم من بأس الله الذي كانت الرسل تعدهم، أي: إن ما وعدوا من وقوع البأس بنا كان حقّاً.
ويحتمل قوله: { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ } أي: بالتوحيد، أي: إن الذي جاءت به الرسل في الدنيا من التوحيد كان حقّاً.
أو أن الذي أخبر الرسل عن هذا اليوم كان حقّاً.
وقوله - عز وجل -: { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ }.
كأنهم إذا حل بهم ووقع ما أوعد لهم الرسول من البأس، تمنوا عند ذلك الشفعاء الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا؛ كقولهم:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18].
أو طلبوا الشفعاء كما كانوا يطلبون في الدنيا شفعاء إذا بدا لهم أمر عظيم، فيشفع بعضهم بعضاً، ويعين بعضهم بعضاً في هذه الدنيا، فعلى ما كان لهم في الدنيا تمنوا في الآخرة ذلك، فإذا أيسوا عن ذلك وأيقنوا أن لا شفيع يشفع لهم، فعند ذلك قالوا: { أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }، لا أنهم قالوا ذلك مجموعاً؛ كقوله:
{ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا... } [الأنعام: 27] إلى قوله: { لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [الأنعام: 28].
قال بعضهم: لو ردوا في الدنيا، لعادوا إلى ما نهوا عنه.
وقال آخرون: لو ردوا إلى المحنة إلى الأمر والنهي لصاروا إلى العمل الذي كانوا يعملون.
ثم أخبر أنهم قد خسروا أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا، وبعبادتهم غير الله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }، أي: بطل عنهم ما كانوا يفترون أن هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقولهم:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] وغير ذلك من الافتراء؛ ذلك كله قد بطل عنهم، فبقوا حيارى، وانقطع رجاؤهم وأملهم الذي طمعوا.
قوله: { قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } من رحمة الله.
وقيل: مما وعدوا لو أطاعوا.
وقيل: أهلكوها.