التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٢
وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
٣٣
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٤
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٥
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ... } الآية.
ذكر نهاية سفههم، وغاية جرأتهم على الله، وبغضهم الحق، مع علمهم أن الله هو الإله، وأنه قادر على إنزال العذاب، وله السلطان على إمطار الحجارة بقولهم: { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }، فلم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة سفههم، وجرأتهم على الله، وبغضهم الحق، وذكر هذا - والله أعلم - ليعلم الناس ما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء هؤلاء السفهاء إلى دين الله الذين لم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة بغضهم الحق، وجرأتهم على الله، وما يتحمل منهم من العظيم.
وقوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }.
يحتمل قوله: { وَأَنتَ فِيهِمْ } أي: في جملة المؤمنين أنه لا يعذب أحداً في الدنيا ما دام هو فيهم، وما دام مؤمن فيهم بقوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }، أي: يؤمنون، وهو كما ذكر أنه أرسله رحمة بقوله:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، ومن رحمته ألا يعذب أحداً من أمته في الدنيا، إنما يؤخر ذلك إلى يوم التناد بقوله: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ... } [إبراهيم: 42] وقوله: { وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } [القمر: 46].
ويحتمل أن يكون قوله: { وَأَنتَ فِيهِمْ }: في أهل مكة خاصة أنه لا يعذبهم ما دام هو فيهم، وما دام فيهم أحد من المسلمين؛ من نحو النساء والذراري؛ كقوله:
{ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ... } الآية [الفتح: 25]، أي: لا نعذبهم وأنت يا محمد فيهم، أي: بين أظهرهم حتى نخرجك من بينهم، { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي: يصلون.
وقيل: يؤمنون؛ وكذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - ولكن يعذبهم تعذيب القتال والجهاد، ولا يعذبهم تعذيب استئصال على ما أهلك سائر الأمم.
ثم إن المعتزلة تعلقت بظاهر قوله - تعالى -: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }، أي سيؤمنون؛ أي: لا يعذبهم ما دام يعلم أن فيهم أحداً يؤمن في آخر عمره، أو من قولهم ألا يجوز لله أن يهلك أحداً إذا كان في علمه أنه سيؤمن في آخر عمره؛ لقولهم في الأصلح: إن الله لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدين؛ فعلى ذلك تأولوا ظاهر هذه الآية أنه لا يعذبهم وهم يستغفرون، أي: سيؤمنون.
لكن لو كان كما قالوا، لكان لا يجوز الجهاد معهم أبداً، ويسقط الأمر بالقتال؛ إذ لعل فيهم من يسلم، فإذا أمره بالجهاد والقتال معهم، دل أن ذلك ليس ما توهموا، والله أعلم.
وقال بعضهم في قوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }: أي: وهم يدخلون في الإسلام.
وقيل: يسلمون.
وقال بعضهم: { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }: بقية من بقي في مكة من المسلمين، فلما خرجوا منها قال: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ ... } الآية.
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: فيكم أمانان:
أحدهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }.
والآخر: الاستغفار؛ لقول الله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }.
قال: فذهب أمان، وهو رسول الله، وبقي أمان، وهو الاستغفار.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين؛ لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم؛ فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم، وهو الاستغفار الذي ذكر.
وروي عن عبد الله بن عمر
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ساجداً في آخر سجوده في صلاة الآيات، فقال: أف! أف!، فقال: رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون" .
وعن بعضهم: أمانان أنزلهما الله؛ أما أحدهما: فمضى، وهو نبي الله، وأمّا الآخر: فأبقاه الله - تعالى - بين أظهركم، وهو الاستغفار والتوبة.
وفي إثبات قول السفهاء ودعائهم بإمطار الحجارة عليهم، وجعل ذلك كتاباً يتلى عليهم في الصلوات - أوجه ثلاثة من الحكمة:
أحدها: تعريف لهذه الأمة المعاملة مع السفهاء عند ارتكاب المناكير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنهم إذا تمادوا في غيهم واستقبلوه بالمكروه والأذى ألا يترك الأمر لهم بالمعروف، ولا يؤيس من خيرهم اقتداء بالنبي أنه لم يترك دعاءهم، وأمرهم بالمعروف مع شدة سفههم وتمردهم.
والثاني: ليعلم الخلق أن حجة الله تلزم العباد وإن كانوا قد جهلوه، إذا كان التضييع جاء من قبلهم في ترك النظر والتفكر؛ إذ لو علموا حقيقة العلم أنه الحق، لم يكونوا ليدعوا على أنفسهم بالهلاك.
والثالث: يكون فيه بيان.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }.
أي: ما لهم من عذر في صرف العذاب عن أنفسهم؛ إذ قد كان منهم من أنواع ما كان لو كان واحد من ذلك لكانوا يستوجبون العذاب؛ من تكذيبهم الرسول والآيات التي أرسلها إليهم، وصدهم الناس عن المسجد الحرام، وهو مكان العبادة، وسؤالهم بقولهم: { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }، أي: ليس لهم عذر في صرف العذاب عن أنفسهم، والاحتجاج على الله أنه لم يرسل رسولاً بقولهم:
{ لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً... } الآية [طه: 134]؛ بل أرسل إليهم الرسول، فكذبوه، وبعث إليهم الآيات فكذبوها، وصدّوا الناس عن المسجد الحرام، فلا عذر لهم في وجه من الوجوه أن يصرف العذاب [عنهم]، إلا أن الله بفضله ورحمته يصرف العذاب عنهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفار المؤمنين، وإلا قد كان منهم جميع أسباب العذاب التي يستوجبونه بها.
وقوله: { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }.
أي: عن الصلاة فيه.
ويحتمل أن يكونوا صدّوا الناس عن رسول الله، لكنه ذكر المسجد لما كان رسول الله فيه؛ لئلا يروا رسول الله فيتبعوه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ }.
أي: لم يكونوا أولياء ليصرفوا العذاب عن أنفسهم بالولاية، وهو صلة قوله: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ }، وهم ليسوا بأوليائه.
ويحتمل قوله: { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ }: أنهم كانوا يصدون الناس عن المسجد الحرام؛ لما ادعوا أنهم أولياؤه، وأنهم أولى بالمسجد الحرام [منهم]، أخبر أنهم ليسوا أولياءه، إنما أولياؤه المتقون الذين اتقوا ما أتوا هم، أو أولياؤه الموحدون، لا الذين أشركوا غيره في عبادته وألوهيته.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً }.
قال بعضهم: [كان أحسن حالهم التي هم عليها هي حال الصلاة]، فإذا كان صلاتهم مكاء وتصدية فكيف حالهم في غير الصلاة؟!
وقال بعضهم: قوله: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } وذلك أن النبي - عليه السلام - وأصحابه إذا صلوا في المسجد الحرام، قام طائفة من المشركين عن يمين النبي وأصحابه، فيصفرون كما يصفر المكاء، وطائفة تقوم عن يسارهم فيصفقون بأيديهم؛ ليخلطوا على النبي وأصحابه صلاتهم، فنزل قوله - تعالى -: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً }.
ثم اختلف في المكاء والتصدية؛ قال بعضهم: المكاء: هو مثل نفخ البوق، والتصدية: هي طوافهم على الشمال.
وقال القتبي: المكاء: الصفير؛ يقال: مكا يمكو، وهو مثل ما قيل للطائر: مكاء؛ لأنه يمكو، أي: يصفر، يعني: يصوت، والتصدية: هي التصفيق؛ يقال: صدى: إذا صفق بيديه.
وقال أبو عوسجة: المكاء: شبه الصفير، والتصدية: ضرب باليدين، وهو من الصدى؛ من الصوت.
وقيل: المكاء: صفير كان أهل الجاهلية يلعبون به، والتصدية: الصدّ عن سبيل الله ودينه.
وقوله: { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }.
قال بعض أهل التأويل: ذوقوا العذاب يوم بدر، وهو الهزيمة والقتل الذي كان عليهم يوم بدر.
ويحتمل قوله: { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }: في الآخرة؛ بكفرهم في الدنيا.