التفاسير

< >
عرض

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ
٣٨
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣٩
وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٤٠
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }.
ذكر - عز وجل - غاية كرمه وجوده بما وعدهم من المغفرة والتجاوز عمّا كان منهم من الإشراك في ألوهيته، وصرف العبادة إلى غيره، وصدّ الناس عن عبادته وطاعته، ونصب الحروب التي نصبوا بينهم وبين المؤمنين، وغير ذلك من أنواع الهلاك، فمع ما كان منهم وعدهم المغفرة بالانتهاء عن ذلك؛ ليعلم غاية كرمه وجوده.
والمغفرة تحتمل التجاوز [أي يتجاوز] عنهم؛ ما كان منهم لا يؤاخذهم بذلك.
ويحتمل: يستر عليهم معاصيهم التي كانت منهم، ولا يذكرون ذلك؛ لأنهم لو ذكروا ذلك تنغص عليهم النعم.
وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنهم إن انتهوا وتابوا غفر لهم ما قد كان منهم، وإنما كانوا منتهين بالإيمان، ولم يجعل بين الإيمان والكفر منزلة ثالثة، وهم يجعلون بينهما منزلة ثالثة، ويقولون: إذا ارتكب كبيرة خرج من الإيمان، ويخلد في النار أبداً، ولم يكن داخلاً في الكفر.
وفيه دليل نقض قول من يقول بأن على الكافر فعل العبادات؛ من نحو الصلاة، والزكاة والصيام؛ لأنه ذكر الانتهاء، والانتهاء عما كان من ترك العبادات القيام بقضائها، وإذا ما تركوا، فلما لم يجب عليهم أداء شيء من ذلك، دل أنه لم يكن عليهم في حال كفرهم فعل تلك العبادات، إنما عليهم اعتقاد تلك العبادات؛ إذ لو كانت عليهم لكان الانتهاء بقضاء ذلك؛ كقوله - عليه السلام -:
"من نام عن صلاة أو نسيها، فعليه أن يصليها إذا ذكرها أو إذا استيقظ، وذلك كفارته" ؛ وكذلك قوله - تعالى -: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [التوبة: 5]، ليس على الفعل، ولكن في حق الاعتقاد أنه لا سبيل إلى القيام بفعل ما ذكر إلا بعد حول ووقت طويل.
وفي هذه الآية دلالة على أن ليس بين الشرك والإيمان منزلة ثالثة؛ على ما يقوله المعتزلة في صاحب الكبيرة؛ لأنه لو كان بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، لكانوا إذا انتهوا عن الكفر ولم ينتهوا عن تلك المنزلة لا يغفر لهم؛ على قولهم؛ فدل ما ذكر من المغفرة على أن ليس بينهما منزلة، ولكن إذا انتهوا عن الكفر دخلوا في الإيمان.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ }.
قال بعضهم: { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى الكفر وقتال محمد بعد ما انتهوا عنه، { فَقَدْ مَضَتْ.... }، يعني: القتال.
ويحتمل أن يكون قوله: { يَعُودُواْ } أي: ما داموا فيه، لا أن كانوا خرجوا منه؛ نحو قوله - تعالى -:
{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة: 257] كانوا فيه، لا أن كانوا خرجوا منه ثم دخلوا في غير ذلك.
ثم يحتمل وجهين بعد هذا:
أحدهما: أن للكفر حكم التجدد في كل وقت.
والثاني: ما ذكرنا أن ذكر العود فيه لدوامهم فيه وإن لم يخرجوا منه، وذلك جائز في اللسان؛ كقوله:
{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة: 257] ابتداء إخراج من غير أن كانوا فيه، وكقوله: { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } [الرعد: 2] ابتداء رفع، لا أن كانت موضوعة فرفعها من بعد؛ فعلى ذلك قوله: { وَإِنْ يَعُودُواْ } يحتمل: أي: داموا فيه.
وقوله: { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ }.
مضت، يحتمل ما ذكرنا من القتال.
والثاني: سنة الأولين: الهلاك الذي كان.
وقوله: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }.
قيل: الفتنة: الشرك، أي: قاتلوهم حتى لا يكون الشرك، { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله }.
ويحتمل قوله: { حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي: محنة القتال؛ كأنه قال: قاتلوهم إلى الوقت الذي ترتفع فيه المحنة، وهو يوم القيامة.
وفيه دلالة لزوم الجهاد إلى يوم الدين، والفتنة: هي المحنة التي فيها الشدة، { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله }.
وقوله - عز وجل -: { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله }.
يخرج على وجهين:
أحدهما: ويكون من الدين الذي هو الدين كله لله، لا نصيب لأحد فيه، وهو السبيل التي كانت للشيطان؛ كأنه قال: وتكون الأديان التي يدان بها ديناً واحداً، وهو دين الله الذي يُدعى الخلق إليه، وبذلك بعث الرسل والكتب، والله أعلم.
والثاني: يحتمل أن يكون الحكم كله لله؛ كقوله:
{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } [يوسف: 76]، أي: في حكم الملك.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
وقوله: { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ }.
قيل: ناصركم.
وقيل: المولى: المليك.
{ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }.
أي: نعم الناصر والمعين، { وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }؛ لأنه لا يعجزه شيء.
وقيل: { مَوْلاَكُمْ }، أي: أولى بكم.