التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ
٤٥
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٤٦
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٤٧
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ }.
قيل: الفئة: اسم جماعة ينحاز إليها، وهو من الفيء والرجوع، يفيئون إليها ويرجعون.
ذكر - هاهنا - الفئة، [وذكر في الآية التي تقدمت الزحف، وهو قوله: { إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } مكان الفئة]، ونهى أولئك عن تولية الأدبار بقوله: { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ }، وقال هاهنا: { فَٱثْبُتُواْ }؛ ليعلم أن في النهي عن تولية الأدبار أمر بالثبات، وفي الأمر بالثبات نهي عن تولية الأدبار، فيكون في النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً }.
قال أبو بكر الكيساني: قوله: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ }: فيما تعبدكم من طاعته، ووعدكم من نصره، ولا تنظروا إلى الكثرة فتظفروا.
ويحتمل قوله: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } فيما لكم من أنفسكم وأموالكم، أي: إن أنفسكم وأموالكم له، إن شاء أخذها منكم بوجه تتقربون به إلى الله، فاذكروا الله على ذلك، وهو ما ذكر في قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ... } [التوبة: 111] الآية.
ويحتمل: اذكروا الله كثيراً في النعم التي أنعمها عليكم.
أو يقول: اذكروا المقام بين يدي رب العالمين، وذلك بالذي يمنعكم من المعاصي والخلاف لأمره، وبعض ما يرغبكم في طاعته؛ فيكون على هذا التأويل الأمر بذكر الأحوال.
ويحتمل الأمر بذكر الله باللسان، وذلك بعض ما يستعان به في أمر الحرب { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [لكي تفلحوا] بالنصر والظفر، أو { تُفْلَحُونَ } أي: تظفرون.
وقوله - عز وجل -: { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
أطيعوا الله فيما يأمركم بالجهاد والثبات مع العدو، ورسوله فيما يأمركم بالمقام في المكان، والثبات، وترك الاختلاف والتنازع في الحرب، وذلك بعض ما يستعان به في الحرب.
{ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ }.
أي: لا تنازعوا رسوله فيما يأمركم في أمر الحرب وعما ينهاكم؛ كقوله: { يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ }؛ لأنكم إذا تنازعتم اختلفتم وتفرقتم، فإذا تفرقتم فشلتم وجبنتم؛ فلا تنصرون ولا تظفرون على عدوكم؛ بل يظفر بكم [عدوكم].
أو أن يقال: لا تنازعوا؛ لأنكم إذا تنازعتم تباغضتم، فيفشلكم التباغض بأنفسكم، في الجهاد مع العدو، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }.
قال بعضهم: [يذهب] نصركم وظفركم.
وقال بعضهم: تذهب ريح دولتكم.
ويحتمل: [{ رِيحُكُمْ }] الريح التي بها تنصرون، وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" ، وهو ما ذكرنا: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [الأحزاب: 9].
وقوله: { وَٱصْبِرُوۤاْ }.
أي: اصبروا للجهاد ولقتال عدوكم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }.
بالنصر والظفر.
وفي هذه الآية تأديب من الله للمؤمنين، وتعليم منه لهم فيما ذكرنا، أي: في أمر الحرب وأسباب القتال والمجاهدة مع العدو؛ لأنه أمرهم بالثبات، وأمرهم بذكر الله، ونهاهم عن التنازع والاختلاف، وذلك بعض ما يستعان به في الانتصار على عدوهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ }.
قوله: { بَطَراً }، أي: كفراً بنعم الله؛ كقوله:
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً... } [النحل: 112] الآية؛ فعلى ذلك خرجوا من ديارهم كفراً بأنعم الله؛ لأنهم خرجوا إلى قتال محمد، وهو من أعظم نعم [الله على خلقه وهم كفروا تلك النعم حيث خرجوا لقتاله.
وكذلك قالوا في قوله:
{ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [القصص: 58] أي: كفرت.
وقوله { بَطَراً }] كفراناً وتكبراً، أي: خرجوا متكبرين كافرين.
{ وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ } يحتمل ومراءاتهم وجهين:
أحدهما: ومراءاتهم في الدين؛ لأنهم قالوا: اللهم انصر أهدانا سبيلاً، وأوصلنا رحماً، وأقرانا ضيفاً عندهم أنهم على حق، وأن المؤمنين على باطل.
ويحتمل: ومراءاتهم في أمر الدنيا؛ لأنهم كانوا أهل ثروة ومال، وأهل عدة وقوة، خرجوا مرائين للناس.
وقوله: { وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ } لأنهم كانوا أهل الشرف عندهم، فخرجوا لمراءاة الناس.
{ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
أي: يصدون الناس عن دين الله؛ أخبر - عز وجل - عن خروج أولئك الكفرة أنهم خرجوا لما ذكر، فكان فيه أمر للمؤمنين بالخروج على ضد ذلك؛ كأنه قال: اخرجوا على ضدّ ما خرجوا هم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }.
أي: علمه محيط بهم، لا يغيب عنه شيء من مكائدهم وحيلهم والمكر برسول الله في الدفع عنه والنصر له.
والثاني: محيط بما يعملون، يجزيهم ويكافئهم، ولا يفوت عنه شيء؛ على الوعيد، والله أعلم.