التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٧
لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٦٨
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٩
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٠
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٧١
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ }.
قال أبو بكر الكيساني: عاتب الله رسوله وأصحابه في أخذ الأسارى بقوله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ }.
وبالغ في العتاب في أخذ الفداء من الأسارى بقوله: { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ }.
وكذلك روي عن رسول الله
"أنه لما استشار أصحابه في الأسارى، أشار أبو بكر إلى أخذ الفداء، وعمر إلى القتل، فقال: لو نزل من السماء عذاب ما نجا إلا عمر" .
عاتبهم بالأخذ أخذ الأسارى، واشتد العتاب في أخذ الفداء، وأمر بالقتل وضرب الرقاب بقوله: { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12] إنما أمر بضرب الرقاب وضرب البنان، وكذلك يخرج قوله: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ... } الآية [الأنفال: 68] على العتاب؛ إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.
وعن ابن عباس قال: لم يكن الأنبياء - صلوات الله عليهم - فيما مضى يكون لهم أسارى حتى يثخنوا في الأرض.
وعن سعيد بن جبير قال: لا يفادى أسارى المشركين، ولا يمن عليهم حتى يثخنوا بالقتل، ثم تلا:
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } الآية [محمد: 4]؛ إلى هذا ذهب هؤلاء.
وقوله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ }.
يخرج تأويل الآية على وجهين:
أحدهما: يقول: ما كان لنبي أن يأخذ من الأسرى الفداء، { حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: يغلب، حتى إذا أخذ الفداء وسرحهم بعد ما غلب في الأرض، يكون رجوعهم إلى غير منعة وشوكة، وإذا لم يغلب في الأرض، أي: حتى يصير الدين كله لله؛ كقوله:
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } الآية [البقرة: 193]، هذا كان لمن قبله، فرخص لرسوله ذلك.
وقيل في قوله: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بوجوه:
أحدها: ما قال أبو بكر الأصم: تأويله: لولا كتاب من الله سبق ألا يعذب المخطئين في عملهم على خلاف أمره، وإلا لمسكم العذاب فيما أخذتم من الأسارى والفداء منهم عذاب عظيم.
وقال آخرون: قوله: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ }: أي: أحل الغنائم لهذه الأمة، وإلا لمسكم العذاب فيما أخذتم واستحللتم عذاب عظيم.
وقال بعضهم: لولا كتاب من الله سبق أنهم يتوبون عما عملوا من الأخذ وغيره، وأنه يتوب عليهم، وإلا لمسكم العذاب [بذلك وأمكن أن يكون] التأويل في غير هذا كان في قوله:
{ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12] دلالة إباحة الأمر ورخصته؛ لأنه قال: { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } [الأنفال: 12] هو الإبانة من المفصل الذي تبان به الرءوس، وذلك قلما يمكن في القتال، ولا يقدر إبانه الرءوس في الحرب، إنما يمكن ذلك بعد ما أخذوا أو وقعوا في أيديهم.
وأما ما ذكر من ضرب البنان: فهو في الحرب؛ لأنه في الحرب إنما يضرب فيما ظفر ووجد السبيل إلى ذلك، ففيه دلالة.
وتأويل قوله: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ... } الآية: يحتمل أن يكون ملحقاً على ما سبق من قوله:
{ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ... } الآية [الأنفال: 5-6]، أي: لولا [أن] من حكم الله أن يجعل لكم الظفر على إحدى الطائفتين، وإلا لمسكم العذاب بمجادلتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفتكم إياه في الخروج وإرادتكم العير.
أو أن يقال: لولا أن من حكم الله ألا يعذب أحداً ولا يؤاخذه في الخطأ في العمل بالاجتهاد وإلا لمسكم { فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، ويكون قوله: { أَخَذْتُمْ } أي: عملتم.
ثم قالت المعتزلة: في قوله: { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } دلالة على أن الله لا يريد ما أراد العباد إذا أرادوا المعصية؛ لأنه أخبر أنهم أرادوا عرض الدنيا، وهو يريد الآخرة، فهم أرادوا المعصية، وهو يريد لهم الآخرة.
ولكن التأويل عندنا أن قوله: { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ }، أي: تريدون عرض الدنيا، والله يريد حياة الآخرة وعرضها.
وبعد، فإنه قد كان الله أراد لهم الآخرة وحياتها، وهم أرادوا العير وعرض الدنيا، وقد كان ما أراد الله لهم لا ما أرادوا هم، أي: اختار لهم غير ما اختاروا هم.
وأصله أن الله - عز وجل - أراد الآخرة لأهل بدر، فكان ما أراد، ولأولئك الكفرة النار، فكان ما أراد؛ كقوله:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 176].
والأشبه أن تكون الإرادة - هاهنا - المودة والمحبة، أي: تودون وتحبون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة، وهو ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال:
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال: 7]، كانوا يودون أن القتال مع غير ذات الشوكة؛ حتى تكون لهم الغنائم.
والإرادة التي تضاف إلى الله تخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: الرضا؛ كقوله:
{ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا } [الأنعام: 148]، كانوا يستدلون بتركه إياهم على أن الله قد رضي بصنيعهم.
والثاني: الإرادة: الأمر؛ كقوله:
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28].
والثالث: الإرادة هي صفة فعل كل فاعل يخرج فعله على غير سهو وغفلة ولا طبع؛ بل يخرج على الاختيار.
وقال بعض أهل التأويل:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار في أسارى يوم بدر أصحابه، فقال لأبي بكر: يا أبا بكر، ما تقول فيهم؟ فقال: يا رسول الله؛ قومك وأهلك، فاستبقهم [واستأمنهم] لعل الله يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله؛ كذبوك وأخرجوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه وأضرمه عليهم ناراً، فقال له العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول الله فلم يجبهم شيئاً، ثم قام فدخل، فقال ناس: يقول بقول أبي بكر، وقال ناس: يقول بقول عمر، وقال ناس: يقول بقول عبد الله، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى؛ حيث قال: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وإن مثلك يا عمر كمثل موسى؛ حيث قال: { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }، وقال: يا عمر، إن مثلك كمثل نوح؛ حيث قال: { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً }، ولا يسألن أحد منكم إلا بفداء أو ضربة عنق، قال عبد الله: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء، فأنزل الله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } إلى آخر ما ذكر" .
ثم يحتمل قوله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } قبلكم، وأما أنتم فقد أحلت لكم الأسارى والغنيمة، ويدل - أيضاً - ما روي من الأخبار والآيات على أنه إذا أثخن في الأرض جاز له الأسر؛ لأنه لو لم يجز ذلك كما لا يجوز قبل الإثخان في الأرض، زالت فائدة الخصوص، وقد بين الله ذلك بقوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } [محمد: 4].
ثم اختلف أهل العلم في فداء الأسارى بالمال؛ قال ابن عباس - رضي الله عنه - كان ذلك يوم بدر والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله - تعالى - في الأسارى:
{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [محمد: 4]، فجعل النبي والمؤمنين بالخيار: إن شاءوا فدوهم.
وعن الحسن قال: يصنع به ما صنع رسول الله بأسارى بدر يمن عليه أو يفادي.
وقال غيرهم بخلاف ذلك.
وقال أصحابنا: إن احتاج الإمام إلى مال فاداهم.
وقد دل ما ذكرنا من الآيات والأخبار على جواز الفداء بعد الإثخان فيهم، فإن لم يكن إلى المال محتاجاً فله قتلهم، لأن ذلك إنكاء في العدو وأشد لرهبتهم من المؤمنين، وقال: وله أن يسترقهم، فهو كما قالوا: إذا كان الأسير من أهل الكتاب أو من العجم، فأما عرب عبدة الأوثان فلا يسترقون؛ لأنا لا نعلم أحداً منهم استرقه النبي لما أسره، ولم يبلغنا أن أبا بكر استرق واحداً من أهل الردة، وكيف يجوز استرقاقهم وقد قال الله - تعالى -:
{ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح: 16].
وأمّا الفداء والقتل: فقد ظهر من فعل رسول الله في أسارى بدر.
وفيما روي من الاستشارة - استشارة النبي أصحابه في الأسارى - دلالة العمل بالاجتهاد، وفيما روي في الخبر عن نبي الله - عليه السلام - قال لأبي بكر، وعمر:
"يا أبا بكر ويا عمر، إن ربي يوحي إلي أن أشاوركما، ولولا أنكما تختلفان ما عصيتكما، أو ما عملت بخلاف رأيكما فيه" - أنه لا يجوز لأحد أن يخالفهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكما تختلفان ما عصيتكما، أو ما عملت بخلاف رأيكما" .
ثم ما أخذ من الأسارى من الفداء لا يدري على أي وجه أخذ على الترك أو الردّ إلى أوطانهم من غير أن تركهم بالجزية؛ إذ من قولهم ألا يجوز الجزية [منهم] والترك على ذلك.
وفي الآية دلالة ذلك، وهو قوله:
{ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح: 16].
وفي الخبر:
"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" إلا أن يقال: إن المفاد إلا التي ذكر كان هذا، وهذا كان بعده، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً }.
قال بعضهم: قوله: { حَلاَلاً طَيِّباً } واحد، كل حلال طيب، وكل حرام خبيث، وإنما يطيب إذا حل، ويخبث إذا حرم، ولكن يحتمل قوله: { حَلاَلاً } بالشرع، { طَيِّباً } في الطبع، وكذلك الحرام هو حرام بالشرع، وخبيث بالطبع، وإنما يتكلم بالحل والحرمة من جهة الشرع، والطيب والخبيث بالطبع.
والطيب: هو الذي يتلذذ به ولا تبعة فيه؛ لأن خوف التبعة ينغص عليه ويذهب بطيبه ولذته.
وجائز ما ذكر من الطيب - هاهنا - لما أن أهل الشرك كانوا يأخذون الأموال ويجمعونها من وجه لا يحل، وبأسباب فاسدة، فيكرهون التناول منها إذا غنموها لتلك الأسباب الفاسدة، فطيب قلوبهم بقوله: { طَيِّباً }.
وفيه دليل جواز التقلب في البيع الفاسد وطيب التناول منه، وإن كان مكتسباً بأسباب فاسدة بعد أن يكون بإذن؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ما ذكرنا.
وفيه دلالة أن أهل الكفر لا يؤاخذون بالأفعال التي كانت لهم في الكفر، ولا ما كانوا تركوا من العبادات؛ لما ليست عليهم، إنما يؤاخذون بالاعتقاد.
وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }.
فيما أمركم به ونهاكم عنه فلا تعصوه.
{ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
لمن تاب ورجع عما فعل.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } قال عامة أهل التأويل: إن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب وأصحابه، وكذلك يقول ابن عباس: قالوا للنبي: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك رسول الله؛ فنزل: { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً }، أي: إن يعلم الله اعتقاد الإيمان والتصديق له في قلوبكم، { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ }، أي: إيماناً وتصديقاً، فيخلف عليكم خيراً مما أصيب عليكم.
لكنها فيه وفي غيره: من فعل مثل فعله فهو في ذلك سواء، يكون له من الموعود الذي ذكر ما يكون له.
وقوله: { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً }.
وهو الإيمان الذي علم أنهم اعتقدوا في قلوبهم.
وقوله: { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ }.
أي: آتاكم خيراً - وهو الإيمان - مما أخذ منكم من المال الذي ذكر في القصة.
ويجوز "يفعل" مكان "فعل"؛ كقوله:
{ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ } [الأنفال: 49]، أي: قال المنافقون، وذلك كثير في القرآن؛ فعلى ذلك قوله: { يُؤْتِكُمْ خَيْراً }.
ويحتمل قوله: { يُؤْتِكُمْ } أيضاً، أي: يثيبكم ويعطيكم أفضل مما أخذ منكم في الآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ } لما كان في الشرك؛ كقوله:
{ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة: 192] للذنوب، وذو تجاوز، { رَّحِيمٌ } يرحم في الإسلام.
ويحتمل قوله: { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء، أو ما أخذ منهم بمكة؛ أخبر أنه يؤتهم خيراً من ذلك في الدنيا من الأموال وغيرها.
والإثخان: قال ابن عباس: القتل.
قال أبو معاذ: (يثخنون)، أي: يذلون، المثخن: الذليل.
[و] قال أبو عوسجة: { حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [أي: يثخن في أهل الأرض]، يكثر القتلى والجراحات؛ يقال: أثخنت في القوم: إذا أكثرت فيهم القتل والجراحات، ويقال: ضربه حتى أثخنه، أي: ضربه حتى لا يقدر على القيام، وهو ما ذكر محمد في بعض مسائله: أنه إذا رمى صيداً بسهم فأصابه حتى أثخنه، ثم رمى آخر بسهم فأصابه - فإنه للأول؛ لما أنه صيره بالإثخان خارجاً من أن يكون صيداً، وهو الضرب الذي وصفناه.
وثخن يثخن ثخانة فهو ثخين، وثخن يثخن ثخونة واحد، أي: غلظ.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ }.
يحتمل أن تكون الآية صلة ما سبق من الآيات، وهو قوله:
{ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ... } الآية [الأنفال: 56]، وقوله: { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ... } الآية [الأنفال: 62] وغير ذلك { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } ونحوه، فقال: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ }: في نقض العهد وغير ذلك الأمانات، { فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } [يحتمل قوله: فقد خانوا الله من قبل] فيما عاهدوا أن يوفوا ذلك كقولهم: { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [يونس: 22] فقد أنجاهم الله عن ذلك فلم يكونوا من الشاكرين، وكقوله: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [التوبة: 75]، فقد آتاهم الله ذلك فلم يفوا ما عاهدوا، وغير ذلك من العهود التي عاهدوا، والأمانات التي أؤتمنوا فيها، فخانوا الله في ذلك.
أو ما عهد إليهم في أمر محمد، وإظهار نعته وصفته في كتبهم، فكتموا ذلك، وحرفوه، وأظهروا خلاف نعته وصفته، فذلك منهم خيانة، فيقول: إنهم قد خانوا الله من قبل، فأمكن الله منهم، فإذا خانوك يمكنك الله منهم أيضاً.
وقوله: { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } [قال بعضهم: أمكن منهم] أي: انتقم منهم جزاء خيانتهم، وقال [بعضهم]: أمكنك حتى انتقمت منهم.
وقوله: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } ليس على الإرادة، ولكن على وقوع فعل الخيانة؛ كأنه قال: وإن خانوك فقد خانوا الله من قبل، لكنه ذكر الإرادة؛ لما هي صفة كل فاعل مختار؛ لما لا تكون الأفعال إلا بإرادة.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ }: بما يسرون ويضمرون من الخيانة ونقض العهود، { حَكِيمٌ }: في أمره وحكمه حيث أمكنك منهم.
وقال بعضهم في قوله: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } أي: خانوك بعد إسلامهم بالكفر بك.
{ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } أي: فقد كفروا بالله قبل هذا؛ يقول: إن خانوك أمكنك منهم فقتلتهم وأسرتهم، كما فعلت بهم ببدر.
{ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بخلقه، { حَكِيمٌ }: في أمره.