التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٤
فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-التوبة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } قال بعضهم من أهل التأويل: ذلك في قوم كان بينهم وبين رسول الله عهد على غير مدة مبينة، فأمر بنقض العهد المرسل وجعله في أربعة الأشهر التي ذكر في قوله: { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }.
وقال بعضهم: هي في قوم كان لهم عهد دون أربعة أشهر، فأمر بإتمام أربعة أشهر؛ [و] دليله قوله: { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ }.
وقال أبو بكر الكيساني: الآية في قوم كانت عادتهم نقض العهد ونكثه؛ كقوله:
{ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [الأنفال: 56] فأمر [أن يعطي العهد أربعة أشهر التي ذكر في الآية ثم الحرب بعد ذلك.
وقال بعضهم: لما نزل قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } بعث رسول الله] عليّاً إلى الموسم ليقرأه على الناس، فقرأ عليهم: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } من العهد غير أربعة أشهر { إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.
على ما ذكرنا حمل هؤلاء كلهم قوله: { بَرَآءَةٌ } على النقض.
وعندنا يحتمل غير هذا، وهو أن قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } في إمضاء العهد ووفائه، والبراءة هي الوفاء، وإتمامه ليس على النقض؛ [لأنه قال: إلى الذين عاهدتم من المشركين والبراءة إليهم هي الأمان والعهد إليهم، ولو كان على النقض لقال: "من الذين عاهدتم من المشركين" فدل أنه هو إتمام إعطاء العهد إليهم] وإمضاؤه إليهم، [ويؤيد هذا] ما قال بعض أهل الأدب: إن البراءة هي الأمان؛ يقال: كتبت له براءة، أي: أماناً؛ هذا الذي ذكرنا أشبه مما قالوا، أعني: أهل التأويل.
وقوله - عز وجل -: { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }.
أي: سيروا واذهبوا في الأرض { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أي: في مدة العهد.
وقوله - عز وجل -: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ }.
أي: اعلموا أن المؤمنين وإن أعطوا لكم العهد في وقت فإنكم غير معجزي الله وأولياءه، ولا فائتين عنكم في تلك المدة.
{ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ } الخزي: هو العذاب الفاضح الذي يفضحهم ويظهر عليهم.
ويحتمل أن يكون ذلك العذاب والإخزاء الذي ذكر في الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ }.
قال القتبي: { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }، أي: إعلام، ومنه أذان الصلاة، وهو الإعلام؛ يقال: آذنتهم إيذاناً.
وكذلك قال أبو عوسجة.
وقوله - عز وجل -: { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } يكون في قوله: { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } دلالة ما قال أهل التأويل من النقض؛ لأن قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } يكون فيه انقضاء العهد وإتمامه إلى المدة التي ذكر، ويكون ما روي في الخبر [وذكر] في القصة
"أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزل { بَرَآءَةٌ } بعث أبا بكر على حج الناس، يقيم للمؤمنين حجهم، وبعث معه بـ{ بَرَآءَةٌ } السورة، ثم أتبعه علي بن أبي طالب، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، نزل في شيء؟ قال: لا، ولكن لا يبلغ غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنت صاحبي في الغار، وأنت أخي في الإسلام، وأنت ترد على الحوض يوم القيامة؟! قال: بلى يا رسول الله" .
فمضى أبو بكر على الناس، ومضى علي بن أبي طالب بالبراءة، فقام على بالموسم، فقرأ على الناس: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }: من العهد، غير أربعة أشهر؛ فإنهم يسيحون فيها.
ثم قوله: { يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ }.
قال عامة أهل التأويل: هو يوم النحر؛ لأن فيه ذكر طواف البيت وحج البيت.
وقال بعضهم: هو يوم عرفة؛ لأنه هو الذي يوقف فيه بعرفة، وبه يتم الحج على ما روي في الخبر: [
"الحج عرفة، ومن أدرك عرفة بليل وصلي معنا بجمع، فقد تم حجه وقضى تفثه، بإدراكه يتم الحج] وبفوته يفوت" .
وعن الحسن أنه سئل فقيل [له]: ما الحج الأكبر؟ فقال: سنة حج المسلمون والمشركون جميعاً، اجتمعوا بمكة، وفي ذلك اليوم كان لليهود عيد، وللنصارى عيد، لم يكن قبله ولا بعده، فسماه الله الحج الأكبر.
قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل أن يسمي الله عيد النصارى واليهود يوم الحج الأكبر، وهو يوم نزول السخط عليهم واللعنة، ولكن جائز أن يسمى بذلك؛ لاجتماع الخلائق فيه من كل نوع؛ على ما سمي يوم الحشر يوماً [عظيما]؛ كقوله:
{ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [المطففين: 5-6].
وقوله: { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }.
أي: إن تبتم عما كنتم عليه فهو خير لكم؛ لأنهم يأمنون من الرعب الذي كان في قلوبهم، ويكون ذلك الخوف والرعب في قلوب المشركين؛ على ما روي في الخبر أنه قال:
"نصرت بالرعب مسيرة شهر" .
وقوله - عز وجل -: { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ }: عما ذكرنا، { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أي: غير فائتين من نقمة الله وعذابه.
ويحتمل قوله: { فَإِن تُبْتُمْ } عن نقض العهد فهو خير لكم [في الدنيا]، والأول: فإن تبتم وأسلمتم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة.
وروي في بعض الأخبار عن علي - رضي الله عنه -
"أنه سئل: بأي شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين النبي - عليه السلام - عهد فعهده أربعة أشهر، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الحرم مشرك بعد هذا" .
وفي بعض الأخبار: ولا يحج المشرك بعد عامه هذا، وكذلك قال في الآية الأخرى: { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا }، ففيه دلالة إثبات رسالة محمد؛ لأنه قال في ملأ من الناس بالموسم: لا يحج مشرك بعد هذا، مع كثرة أولئك وقوتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم، ثم لم يتجاسر بعد ذلك النداء أحد أن يدخل مكة للحج وغيره، دل أن ذلك أن كله كان بالله - تعالى - لا بهم.
ثم من الناس من استدل بالخبر الذي روي أنه بعث أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه ببراءة، ثم أتبعه عليّاً، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل نزل في شيء؟ قال: "لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني" - على أن عليّاً هو المستحق للخلافة، وهو الأحق بها دون أبي بكر؛ حيث قال: "لا يبلغ عني غيري أو رجل مني".
لكن يحتمل أنه وَلَّى ذلك عليّاً؛ لما كان من عادة العرب أنهم إذا عاهدوا عهداً أنه لا ينقض ذلك عليهم إلا من هو من قومهم، فولى ذلك عليّاً؛ لئلا يكون لهم الاحتجاج عليه فيقولون: لم ينقض علينا العهد.
أو أن يقال: ولى عليّاً أمر الحرب، وهو كان أبصر وأقوى بأمر الحرب من أبي بكر، وولى أبا بكر إقامة الحج والمناسك، فكان أبو بكر هو المولى أمر العبادات، وعلي أمر الحروب، والحاجة إلى الخلافة لإقامة العبادات.
أو أن يقال: إن أبا بكر كان أمير الموسم، وعليّاً كان مناديه، فالأمير في شاهدنا أجل قدراً وأعظم منزلة من المنادي، وأمر عليّاً ذلك؛ لما أن ذلك كان أقبل وأسمع من غيره من الأمير نفسه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } "قال بعضهم: هذا صلة قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ }.
أمر بإتمام العهد للذين لم ينقضوا المسلمين، ولا ظاهروا عليهم أحداً، وأما الذين كانت عادتهم نقض العهد ونكثه فإنه لا يتم لهم، ولكن ينقض، وكذلك تأولوا قوله: { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }: النقض.
ويحتمل أن يكون صلة قوله: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }، ويكون العذاب الأليم هو القتل والأسر؛ كأنه يقول: وبشر الذين كفروا بالقتل والأسر { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً }.
ثم يحتمل قوله: { لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي: لم يخونوكم شيئاً ما داموا في العهد، { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي: لم يعاونوا ولا أطلعوا أحداً من المشركين عليكم، { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ }؛ كقوله:
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } [الأنفال: 58] أمر بالنبذ إليهم عند خوف الخيانة، وأمر بالإتمام إذا لم يخونوا ولم يظاهروا عليهم أحداً.
ودل قوله: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } على أن قوله: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أي: غير معجزي أولياء الله في عذاب الدنيا؛ لأنهم جميعاً سواء في عذاب الآخرة، مشتركون فيه.
وقوله: { إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } قال بعضهم: مدة القوم أربعة أشهر بعد يوم النحر لعشر مضين من ربيع الآخر لمن كان له عهد، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، خمسون ليلة.
وقال بعضهم: إلا الذين عاهدتم من المشركين بالحديبية فلم يبرأ الله ورسوله من عهدهم من الأشهر الأربع [ثم لم ينقصوكم في الأشهر الأربع]، { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي: لم يعينوا على قتالكم أحداً من المشركين، أي: [إن] لم يفعلوا ذلك { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } وهو الأربعة الأشهر { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ }: الذين اتقوا المعاصي والشرك.
وقوله - عز وجل -: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } قال بعضهم: الأشهر الحرم وهي أشهر العهد والأمان، فإذا انسلخ تلك الأشهر ومضت، { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }.
وقال بعضهم: الأشهر الحرم هي الأشهر التي خلقها الله وجعلها حراماً؛ كقوله:
{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة: 36].
وقوله - عز وجل -: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }.
قال بعضهم: حيث وجدتموهم وخذوهم في الأماكن كلها؛ لأن "حيث" إنما يترجم عن مكان، [و]أمر بقتلهم في الأماكن كلها؛ لأنه لم يخص مكاناً دون مكان.
وقال آخرون: هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم، دليله ما ذكر في السورة التي ذكر فيها البقرة، وهو قوله:
{ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [البقرة: 191]، وقال: { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 191] أمرهم بقتالهم في الأماكن كلها إلا المسجد الحرام.
وأمكن أن يكون أنهم يقتلون إلا أن يدخلوا الحرم، فإذا دخلوا الحرم وقد نهوا عن الدخول فيه والحج هنالك، على ما روي أن عليّاً نادى بالموسم: ألا لا يحجن بعد العام مشرك - فإذا دخلوا يقتلون، ويكون دخولهم فيه بعد النهي كابتداء مقاتلتهم إيانا، فإذا قاتلونا عند المسجد الحرام قاتلناهم؛ كقوله:
{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [البقرة: 191] والله أعلم.
وقوله: { وَخُذُوهُمْ } قيل: ائْسِروهم.
وقوله: { وَٱحْصُرُوهُمْ } قيل: احبسوهم، { وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ }، والمرصد: الطريق؛ كأنه أمر بقوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } بقتلهم إذا قدروا عليهم، وأمكن لهم ذلك، والأسر عند الإمكان والحبس إذا دخلوا الحصن، وحفظ المراصد عند غير الإمكان؛ لئلا يغروا، ويقال: أرصدت له، أي: انتظرت أن أجد فرصتي، ويقال: ترصدته، أي: انتظرته.
وقال بعضهم: قوله: { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي: كل طريق يرصدونكم؛ كأنه أمر بذلك؛ ليضيق عليهم الأمر؛ ليضجروا وينقادوا.
وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به؛ لأنه أمر بالحصر وحفظ الطرق والمراصد؛ ليضيق عليهم الأمر ويشتد، فينقادوا، وفيما يحملون إليهم توسيع عليهم.
وقوله: { وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } يحتمل أن يكون قوله: { وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ } أي: أقيموا عليهم الحجج والبراهين؛ ليضطروا إلى قبول ذلك، فإذا انقادوا لكم وإلا فاقتلوهم حيث وجدتموهم.
وقوله - عز وجل -: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ }:
[قال بعضهم أمر الله في أول الآية بقتل المشركين، فقال: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وقال: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ }] فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة؛ لأن الله - تعالى - إنما رفع القتل عنهم بالإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم، وكذلك فعل أبو بكر الصديق لما ارتدت العرب ومنعتهم الزكاة حاربهم حتى أذعنوا بأدائها إليه.
روي عن أنس قال:
"لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب كافة، فقال عمر: يا أبا بكر، أتريد أن تقاتل العرب كافة؟! فقال أبو بكر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، منعوني دماءهم وأموالهم والله لو منعوني عناقاً مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه. قال عمر: فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح عرفت أنه الحق" .
وفي بعض الأخبار قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، ونصلي، ولكن لا نزكي، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر، فقالوا: دعهم؛ فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدَّوْا، فقال: والله، لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه، قيل: أو قاتل رسول الله على ثلاث: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقال الله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ }، والله لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن، فقالوا: إنا نزكي، ولكن لا ندفعها [إليك]، فقال: والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها.
وقال آخرون: قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } في قبولهم والاعتقاد بهما دون فعلهما، لما لا يحتمل حبسهم ومنعهم إلى أن يحول الحول فيؤخذون بأداء الزكاة - دل على أنه على القبول والإقرار بذلك، واستدلوا بما روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله [فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وقالوا في بعض الأخبار: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إ لا الله]، وإني رسول الله، فإذا قالوا ذلك: عصموا مني ..." كذا، وفي بعضها: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وإني رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك منعوا مني..." كذا دل ما ذكرنا من الزيادات والنقصان [أن ذلك] في قوم مختلفين، وأنه على القبول لذلك والاعتقاد، لا على الفعل نفسه، فمن كان لا يقرأ بشيء من ذلك، فإذا قال: لا إله إلا الله، كان ذلك منه إيماناً في الظاهر، ومن كان يقول: لا إله إلا الله، ولا يقول: محمد رسول الله، فإذا قال ذلك كان ذلك منه إيماناً، ومن كان يقر بهذين ولا يقر بالصلاة والزكاة، فإذا أقر بذلك كان ذلك منه إيماناً، فهو على الإقرار به والاعتقاد، لا على الفعل، ألا ترى أن للأئمة أن يأخذوا منهم الزكاة شاءوا أو أبو؟! فلو كان الأداء من شرط الإيمان لكانوا غير مؤمنين بأخذ هؤلاء.
واختلف الصحابة والروايات في الحج الأكبر:
روي عن عبد الله بن الزبير [عن أبيه] قال: قال النبي - عليه السلام - يوم عرفة:
"هل تدرون أي يوم هذا؟ قالوا: نعم، اليوم الحرام، يوم الحج الأكبر، قال: فإن الله قد حرم دماءكم وأموالكم عليكم إلى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا" .
وعن عمر - رضي الله عنه - أنه سئل عن الحج الأكبر، فقال: يوم عرفة.
وعنه: أنه وقف عليهم يوم عرفة فقال: إن هذا يوم الحج الأكبر، فلا يصومنه أحد.
وعن ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر.
وفي بعض الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب على ناقة حمراء يوم النحر، فقال رسول الله:
"أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر" .
وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال: رأيت أو قال: "سمعت - رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يقول يوم النحر عند المحراب في حجة الوداع، فقال: أي يوم هذا؟، قالوا: هذا يوم النحر، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟، قالوا: شهر حرام، قال: هذا يوم الحج الأكبر، فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة هذا البلد في هذا اليوم، ثم قال: هل بلغت
"
. وعن الحارث [قال]: سألت عليّاً عن الحج الأكبر، فقال: يوم النحر.
وعن المغيرة بن شعبة: أنه خطب يوم العيد، فقال: "هذا يوم النحر، ويوم الأضحى، ويوم الحج الأكبر".
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "الحج الأكبر: يوم النحر".
وفيه قول ثالث: ما روي أنه كان في كتاب رسول الله الذي كتبه لعمرو بن حزم: "والحج الأصغر العمرة".
وعن ابن عباس: العمرة: هي الحجة الصغرى.
وسئل عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر، فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والأصغر العمرة.
فأما حديث عمرو بن حزم: فهو حكاية عن كتاب، وليس فيه بيان عن يوم الحج الأكبر، إنما يذكر فيه الحج الأصغر، ولولا خبر علي وابن عمر لجاز أن يقال: يوم عرفة [هو] يوم الحج الأكبر؛ لأنه يقضى فيه فرض الحج وهو الوقوف، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج، وجاز أن يقال: هو يوم النحر؛ لأنه فيه يقضى طواف الزيارة، وهو فرض ويقضى فيه أكبر مناسك الحج؛ بل يوم النحر أولى أن يكون يوم الحج الأكبر؛ لأن الحاج يفعل في يوم عرفة فرضاً من فرائض الحج، وهو الوقوف، ويقضي في يوم النحر فرضاً آخر من فرائضه، وهو طواف الزيارة، ويقضي مع ذلك [أكثر] مناسك الحج، فقد استوى هذان اليومان في أنه يُقْضَى في كل واحد منهما فرض من فرائض الحج، وزاد يوم النحر على يوم عرفة بما يفعل في يوم النحر من مناسك الحج، ولا يفعل في يوم عرفة شيئاً من النسك إلا الوقوف بعرفة.
واحتج بعض الناس بفرضية العمرة بما رواه عمرو بن حزم أن الحج الأصغر هو العمرة، والأكبر هو الحج، بما سميت العمرة حجّاً، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم.
وعن علي وأبي هريرة وابن أبي أوفى - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: الحجة الكبرى: يوم النحر.
وعن عمر وابن عباس أنهما قالا: يوم عرفة.