التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ
٢٧
لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٣٠
-المائدة

حاشية الصاوي

قوله: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ } معطوف على العامل المحذوف في قوله: { { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ } عطف قصة على قصة، أي اذكر ما وقع من بني إسرائيل، واتل عليهم نبأ ابني آدم الخ. قوله: (على قومك) أي سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مشركين. قوله: (خبر) { ٱبْنَيْ ءَادَمَ } أي قصتهما وما وقع لهما. قوله: (هابيل) هو السعيد المقتول، وقابيل هو الشقي القاتل، وظاهر الآية أنهما من أولاد آدم لصلبه وهو التحقيق، ويؤيده قوله فيما يأتي، فبعث الله غراباً، وقيل لم يكونا لصلبه بل هما رجلان من بني إسرائيل، بدليل قوله في آخر القصة، { { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [المائدة: 32]، والأول هو الصحيح، وقابيل هو أول أولاده، وهابيل بعده بسنة، وكلاهما بعد هبوطه إلى الأرض بمائة سنة، وقيل إن قابيل هو وأخته ولدا في الجنة، ولم تر حواء لهما وحماً ولا وصباً ولا دم نفاس، وأما بقية أولاده فبالأرض، وذلا كان يفتخر قابيل على هابيل ويقول له: إني ابن الجنة وأنت ابن الأرض، فأنا خير منك، وحاصل ذلك أن حواء ولدت لآدم عشرين بطناً في كل بطن ذكر وأنثى، فصار الذكور عشرين والإناث كذلك، فلما قتل قابيل هابيل، نقصت الذكور عن الإناث فرزقه الله بشيت ومعناه هبة الله، فتماثل الذكور مع الإناث.
قوله: { بِٱلْحَقِّ } الجار والمجرور ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره اتل تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من فاعل أتل عليهم حال كونك ملتبساً بالحق أي الصدق أو حال من المفعول وهو نبأ أي اتل نبأهما حال كونه ملتبساً بالحق، وكل صحيح، والمقصود من ذكر هذه القصص الأخبار بما في الكتب القديمة، لتقوم الحجة على أربابها وغيرهم، فالأخبار بها من جملة المعجزات.
قوله: { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } أي قرب كل واحد قرباناً، والقربان ما يقرب به إلى الله. وذلك أنه كان في شرع آدم، إذا كبر أولاده زوج ذكر هذه البطن لأنثى بطن أخرى، فأمره الله أن يزوج قابيل أخت هابيل وكانت دميمة، وهابيل أخت قابيل وكانت جميلة، فرضي هابيل وأبي قابيل، وقال: إنك تأمرنا برأيك لا من عند الله. فقال لهما: قرباً قرباناً، فأيكما تقبل منه فهو أحق بالجميلة، فذهب هابيل وأخذ كبشاً من أحسن غنمه وقربه، وذهب قابيل لصبرة قمح من أردأ ما عنده، وقيل قت رديء، حتى أنه وجد سنبلة جيدة ففركها وأكلها، وكان علامة قبول القربان نزول نار من السماء تحرقه، فنزلت على كبش هابيل فأحرقته، وقيل رفع إلى السماء حتى نزل فداء للذبيح ولم يتقبل من قابيل. قوله: (فغضب) أي لأمرين: فوزه بالجميلة وبقبول قربانه. قوله: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي ولم يكن عندك تقوى لعقوقك لأبيك، وعدم إخلاصك في القربان. قوله: { لِتَقْتُلَنِي } اللام للتعليل أي لأجل قتلي. قوله: { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جواب للقسم لتقدمه، وحذف جواب الشرط لتأخره، قال ابن مالك:

وَاحْذُفْ لَدَى اجْتِمَاع شَرْط وقَسَمٍ جَوَابَ مَا أَخرت فهُوَ مُلْتَزَم

والباء في بباسط زائدة في خبر ما، على أنها حجازية، وفي خبر المبتدأ على أنها تميمية. قوله: { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ } أي فالمانع لي من قتلك خوف الله، وكان في شرعهم لا يجب دفع الصائل بل يجب الاستسلام له، وما في شرعنا فعد الشافعي يسنّ الاستسلام للمسلم الصائل، ويجب قتل الكافر، وعند مالك دفع الصائل واجب ولو بالقتل مسلماً أو كافراً. قوله: { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي } هذا تخويف من هابيل لقابيل لعله ينزجر. إن قلت: إنه لا تحل إرادة المعصية من الغير. أجيب بأجوبة منها: أن الهمزة محذوفة والاستفهام للإنكار. والأصل إني أريد، والمعنى لا أريد، ويؤيده هذا قراءة أني بفتح النون بمعنى كيف. ومنها: أن لا محذوفة أي أن لا تبوء على حد: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [فاطر: 41]. قوله: (والذي ارتكبته) أي كالحسد ومخالفة أمر أبيه.
قوله: { وَذَلِكَ } أي المذكور وهو النار. قوله: (زينت) أي سهلت عيه القتل. قوله: { فَقَتَلَهُ } قيل ملا قصد قتله لم يدر كيف يقتله، فتمثل له إبليس وقد أخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر، وقابيل ينظر فتعلم القتل، فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو صابر، واختلف في موضع قتله، فقيل على عقبة حراء، وقيل بالبصرة عند مسجدها الأعظم. قوله: (فحمله على ظهره) أي في جراب، قيل أربعين يوماً وقيل سنة، روي لما قتل ابن آدم أخاه، رجفت بمن عليها سبعة أيام، وشربت الأرض دم المقتول كما تشرب الماء، فناداه الله: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً، فقال الله له: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ فقال: فأين دمه إن كنت قتلته، فحرم الله على الأرض من يومئذٍ أن تتشرب دماً بعده أبداً. ويروى أنه لما قتل قابيل وهابيل كان آدم بمكة، فاشتاك الشجر أي ظهر له شوك، وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه، واغبرت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حادث، فلما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً، فقال: بل قتلته ولذلك اسود جلدك، فغضب عليه فذهب قابيل مطروداً، فأخذ أخته وهرب بها إلى عدن، فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت من النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار، فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت النار فهو أول من عبج النار، وكان قابيل لا يمر بأحد إلا رماه بالحجارة، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنهن فقال ابن الأعمى لأبيه: هذا أبوك قابيل، فرماه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك قابيل، فرفع الأعمى لأبيه: هذا أبوك قابيل، فرماه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك قابيل، فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات، فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي، وابني بلطمتي، واستمرت ذرية قابيل يفسدون الأرض، إلى أن جاء طوفان نوح فأغرقهم جميعاً، فلم يبق منهم أحد ولله الحمد، وأبقى الله ذرية شيت إلى يوم القيامة، وما مات آدم حتى رأى من ذريته أربعين ألفاً. قوله: (ويثيره على غراب ميت معه) أي بعد وضعه في الحفرة التي نبشها.