التفاسير

< >
عرض

لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٠٣
قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
١٠٤
وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١٠٥
ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٠٦
-الأنعام

حاشية الصاوي

قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } جمع بصر وهو حاسة النظر، أي القوة الباصرة، ويطلق على العين نفسها على إطلاق الحال وإرادة المحل. قوله: (وهذا مخصوص) أي نفي الرؤية عام مخصوص برؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، لأن الفعل إذا دخل عليه النفي يكون من قبيل العام. قوله: (لرؤية المؤمنين) علة لقوله مخصوص، وقوله: (لقوله تعالى) علة للعلة. قوله: (ناصرة) أي قامت بها النضارة، وهي البهجة والحسن، وقوله: (ناظرة) أي باصرة للذات المقدس. قوله: (ليلة البدر) أي ليلة أربعة عشر. قوله: (وقيل المراد الخ) أي وعلى هذا فالنفي باق على عمومه فلا يحيط به بصر أحد أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلا ينافي أن المؤمنين يرونه في الآخرة، لكن بلا كيف ولا انحصار لوجود أدلة عقلية ونقلية، أما النقلية فالكتاب والسنة والإجماع، والعقلية منها أن الله علق رؤيته على استقرار الجبل وهو جائز، والمعلق على الجائز جائز، ومنها لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها موسى عليه السلام، إذ لا يجوز على النبي سؤال المحال إذ هو جهل، ويستحيل على النبي الجهل، ومنها أن يقال الله موجود، فكل موجود يصح أن يرى، فالله يصح أن يرى، خلافاً للمعتزلة والمرجئة والخوارج حيث أحالوا الرؤية، مستدلين بظاهر هذه الآية وبقولهم إن الرؤية تستلزم المقابلة واتصال أشعة بصر الرائي بالمرئي، فيلزم أن يكون المرئي جسماً، وتعالى الله عن الجسمية، ورد كلامهم بما علمت، وبأن هذا التلازم عادي لا عقلي، ويجوز تخلف العادة. قوله: (لا تحيط به) أي لا تبلغ كنه حقيقة ذاته وصفاته أبصار ولا بصائر.
قوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ } فيه تفسيران أيضاً، الأول يراها، والثاني يحيط بها على أسلوب ما تقدم. قوله: (ولا يجوز في غيره الخ) أي لأن رؤية كل منهما لصاحبه غير مستحيلة، وما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر. قوله: (أو يحيط به علماً) هذا هو التفسير الثاني. قوله: { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ } من لطف بمعنى احتجب، فلا يحيط به بصر ولا بصيرة، فقوله راجع لقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ }، وقوله: { ٱلْخَبِيرُ } راجع لقوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ } فهو لف ونشر مرتب، وهذا هو المناسب هنا، فقول المفسر (بأوليائه) يقتضي أن معنى { ٱللَّطِيفُ } الرؤوف المحسن، وهو إن كان مناسباً في نفسه، إلا أنه غير ملائم هنا. فتحصل مما تقدم أن الرؤية بالبصر في الآخرة للمؤمنين، وقع فيها خلاف بين المعتزلة وأهل السنة، وتقدم أن الحق مذهب أهل السنة، وأما رؤية قلوب العارفين له في الدنيا بمعنى شهود القلب له في كل شيء فهو جائز، بل هو مطلبهم وغاية مقصودهم ومناهم قال العارف:

أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي إليها قلوب الأولياء تسارع

وكذا رؤياه في المنام. قوله: { بَصَآئِرُ } جمع بصيرة وهي النور الباطني الذي ينشأ عنه العلوم والمعارف. قوله: (حجج) جمع حجة وهي الأدلة، وسميت الحجج بصائر، لأنها تنشأ عنها من باب تسمية المسبب باسم السبب. قوله: { فَمَنْ أَبْصَرَ } (ها) قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن المفعول محذوف. قوله: { فَلِنَفْسِهِ } (أبصر) قدر المفسر متعلق الجار والمجرور فعلاً ماضياً مؤخراً، وهو غير مناسب للزوم زيادة الفاء، بل المناسب تقديره اسماً مبتدأ، والجار والمجرور خبره، والتقدير فابصاره لنفسه، وكذا يقال في قوله: { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا }. قوله: (لأن ثواب إبصاره) أي نفعه فلا يعود على الله من الطاعة نفع، ولا يصل له من المعصية ضر. قوله: { وَمَنْ عَمِيَ } (عنها) أي عن البصائر بمعنى الحجج.
قوله: { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف تقديره نصرف الآيات في غير هذه السور تصريفاً. مثل التصريف في هذه السورة. قوله: (كما بينا ما ذكر) أي الأحكام المذكورة. قوله: (نبين) { ٱلآيَاتِ } هذا وعد من الله بإكمال الدين وإظهاره، فلذا كان نزول قوله تعالى:
{ { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] من مبشرات الوفاء لرسول الله. قوله: (ليعتبروا) أي لتقوم بهم العبرة أي الاتعاظ، فيميزوا الحق من الباطل، وقدره المفسر لعطف قوله: { وَلِيَقُولُواْ } عليه. قوله: (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام في { وَلِيَقُولُواْ } لام العاقبة والصيرورة نظير قوله تعالى: { { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8]، وقيل إن اللام للعلة حقيقة، والمعنى نصرف الآيات ليعتبر الذين آمنوا ويزدادوا بها إيماناً، وليقول الذين كفروا درست ليزدادوا كفراً، ونظير قوله تعالى: { { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 124-125]. قوله: { دَرَسْتَ } كقاتلت، من المدارسة، والمعنى تذاكرت مع أهل الكتاب فتعلمت منهم تلك القصص. قوله: (وفي قراءة درست) أي قرأت الكتب، وبقي قراءة ثالثة سبعية أيضاً: وهي درست بفتح الدال والراء والسين، أي عفت وبليت وتكررت على الأسماع. قوله: (وجئت بهذا منها) راجع لكل من القراءتين.
قوله: { وَلِنُبَيِّنَهُ } أي الآيات، وذكر باعتبار معناها وهو القرآن. قوله: { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ } لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح المشركين وتكذيبهم لرسول الله، أخذ يسلي رسوله بقوله: اتبع، أي دم على ذلك، ولا تبال بكفرهم، ولا تلتفت لقولهم، وما اسم موصول، والعائد محذوف، ونائب فاعل أوحي ضمير مستتر عائد على ما، وإليك متعلق بأوحي، ومن ربك متعلق بمحذوف حال، ومن لابتداء الغاية، والتقدير اتبع الذي أوحي إليك هو أي القرآن، حال كونه ناشئاً وصادراً من ربك، ويصح أن تكون مصدرية، ونائب الفاعل هو الجار والمجرور، والتقدير اتبع الإيحاء الجائي إليك من ربك.
قوله: { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتأكيد التوحيد. قوله: { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي لا تتعرض لهم ولا تقاتلهم، وهذا على أنها منسوخة كما يأتي للمفسر، وقيل إن الآية محكمة، والمعنى لا تلتفت إلى رأيهم، ولا تغتظ من أقوالهم وإشراكهم، لأن ذلك بمشيئة الله، ومثل ذلك يقال: إذا أجمع خلق على ضلالة لا يستطاع ردها، ففي الحديث
"إذا رأيتم الأمر لا تستطيعون رده فاصبروا حتى يكون الله هو الذي يغيره" .