التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ
٦٩
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ
٧٠
-هود

لطائف الإشارات

أخبر أن الملائكة أتوا إبراهيمَ - عليه السلام - بالبشارة. وأخبر أن إبراهيمَ - عليه السلام - أنْكَرَهُم، ولم يَعْرِفْ أنهم ملائكةٌ. فيُحتمل أنَّه - سبحانه - أراد أن تكونَ تلك البشارة فجأةً من غير تنبيهٍ لتكونَ أتَمَّ وأبلغَ في إيجاد السرور، ولا سيما وقد كانت بعد خوف لأنه قال: { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }.
ويقال إن إبراهيم - عليه السلام - كان صاحبَ النبوة والخُلَّة والرسالة فلا بُدَّ أن تكون فراستُه أعلى من فراسة كلِّ أحدٍ، ولكنه في هذه الحالة لم يَعْرِفْ الملائكةَ ليُعْلَمَ أنَّ الحقَّ - سبحانه وتعالى - إذا أراد إمضاءِ حُكْمِ يَسُدُّ على مَنْ أرادَ عيونَ الفراسة، وإنْ كان صاحبُ الفراسة هو خليل الله، كما سَدَّ الفراسة، على نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإفْكِ إلى الوقت الذي نزل فيه الوحيُ، وكذلك التبس على لوطٍ - عليه السلام - إلى أن تبيَّن له الأمر.
وتكلموا في هذه "البشرى" ما كانت؛ فقيل كانت البشارة بإسحاق؟ أنَّه سيولد له ولد ومن نَسْله وسُلالته؛ قال تعالى: { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }.
ويقال بسلامة قومه - حيث كانوا مُرْسَلين بإهلاك قوم لوط - عليه السلام.
ويقال بشارة بالخُلَّة وتمام الوصلة.
ويقال إن الخُلَّة والمحبة بناؤهما كتمان السِّرِّ؛ فَيَعْلَمَ أنهم أُرْسِلُوا بشارةٍ ما ولم يكن للغير اطلاع، قال قائلهم:

بين المحبين قولٌ لست أفهمه

ويقال إن تلك البشارة هي قولهم: "سلاماً" وأن ذلك كان من الله، وأيُّ بشارة أتمُّ من سلام الحبيب؟ وأيُّ صباح يكون مُفْتَتَاً بسلام الحبيب فصَبَاحٌ مباركٌ، وكذلك المبيتُ بسلام الحبيب فهو مباركٌ.
قوله: { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [هود: 69]: لمَّا توهمهم أضيافاً قام بحقِّ الضيافة، فقدَّم خَيْرَ ما عنده مما شكره الحقُّ عليه حيث قال في موضع آخر:
{ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [الذاريات: 26]. والمحبةُ توجِبُ استكثارَ القليلِ من الحبيبِ واستقلالَ ما مِنْك للحبيب، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا نَزَلَ الضيفُ فالواجبُ المبادرةُ إلى تقديم السُّفرة مِمَّا حضر في الوقت.
قوله: { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } [هود: 70] تمامُ إحسانِ الضيف أن تتناولَ يَدُه ما يُقَدَّم إليه من الطعام، والامتناعُ عن أكل ما يُقَدَّم إليه معدودٌ في جملة الجفاء في مذهب أهل الظَّرْف. والأكل في الدعوة واجبٌ على أحد الوجهين.
{ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }: أي خاف أنه وقع له خَلَلٌ في حاله حيث امتنع الضِّيفانُ عن أكل طعامه؛ فأوجس الخيفةَ لهم لا منهم.
وقيل إن الملائكة في ذلك الوقت ما كانوا ينزلون جهراً إلا لعقوبة؛ فلمَّا امتنعوا عن الأكل، وعَلِمَ أنهم ملائكةٌ خَافَ أنْ يكونوا قد أُرْسِلُوا لعقوبة قومه.