التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
٣١
قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ
٣٢
قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٣٣
-يوسف

عرائس البيان في حقائق القرآن

قال الله تعالى { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } دعتهن الى بيتها فاجتمعت فى بيتها اعيان نساء المصر اللواتى صويحات الجمال وزينة وكشفن وجوههن وزينتهن ليغلبن على زليخا ويسلين يوسف منها فعلمت زليخا ضعفهن عن حمل اوايل رؤية يوسف وحسنه وجماله ولطفه ومنظره واحتالت فى القائهن فى المحبة بقوله { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } اجلسهن فى اطيب المجالس واشرف المناظر على خوان فيه الوان الطعام والفواكه واعطت كل واحدة اترجا وسكينا وقالت كلن وقطعت الاترج وارادت بذلك الحيلة عليهم حتى شغلن بالطعام والكلام من رؤية يوسف ليخرج عليهن بالبديهة عن غير موعد والاستيذان حتى يستغرقن فى بحر الهيبة والبهته عند رؤيته قال الله تعالى { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } والبست يوسف قميصا منظوما بالدر واليواقيت ووضعت على راسها تاجا مكلأ باللالى والبست ساقيه وذراعيه سوارا او خلخالا ووضعت على يده === حتى لا يستر وجهه لانه كان اذا راى امراة تغطى وجهه فعلمت شانه بذلك فخرج عليهن بديهة فصرن شايمات تائهات حائرات مفتولات من رؤية يوسف ذاهبات فى حسنه وجماله وعشقه قال تعالى { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } عظمنه بعظمة الله وهبنا منه لما راين فى وجهه نور هيبة الله فذهلهن فى وجه يوسف فسقطن عن التمكين والعقل وفعلن افعالا مجهولة بقوله سبحانه { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وذلك من استغراقهن فى عظمة الله وجلاله وان الله سبحانه ما اراهن من وجه يوسف ما اراه لزليخا فاوقعهن فى نور العظمة والكبرياء وجلال تجليه منه لهن وارى نور حسنه وجماله لزليخا من وجه يوسف فبقيت فى العشق ورعونته ونظافته وبقين فى العظمة والجلال لذلك قطعن ايديهن ولم يشعرن بذلك ولو رات زليخا ما راين ما استقامت فى حالها وما راودته عن نفسه الا ترى الى قوله تعالى { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } راينه على صفة الملائكة المقدسين عن ان يوهم احدا لهم بالشهوة اى ليس هذا من ان يوهم احد بالشهوة فانه مقدس من عالمنا لان عليه كسوة الملائكة من سواطع النور و البرهان الالهى عن ابى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة اسرى بى الى السماء فرايت يوسف فقلت يا جبرئيل من هذا قال هذا يوسف قالوا وكيف رايته يا رسول الله قال كالقمر ليلة البدر" وعن ابى فروة قال كان يوسف اذا سار فى ازقة مصر يرى تلالؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمي والماء على الجدران قال وهب بلغنى ان تسامن الاربعين متن فى ذلك المجلس وجذا من يوسف يا صاحب العقل افهم ان صويحبات يوسف لما راين يوسف راين كسوة الربوبية على محل العبودية فوقعن من رؤيته فيما وقعت الملائكة من رؤية آدم حين سجدت له ولذلك قرئ فى بعض القراة ما هذا الا ملك كريم وههنا مقام التباس العارفين ومشاهدة المحبين ولا قدح فيه لانهم مقدسون من علة التشبه والحلول تعالى الله عن المشابهة بالارواح والاشباح وليس ما قال حسين بن منصور فى هذا المقام اشارة الى التشبيه لانه فنى فى التوحيد انشد وقال سبحان من اظهرنا سوته ==== الثاقب ثم بدا الخلقة ظاهرا فى صورة الآكل والشارب ثم بدأ لخلقة من خلقه بانوار برهان قدرته وسنا شواهد لطيفه صبغه ويمكن ان زليخا كانت محل التمكين وهن فى محل التلوين لذلك استقامت فى رؤية ولم يحل ايضا مما راين من يوسف من النور والعظمة لكن غلب عليها مقام مشاهدة الحسن والجمال لبقائها فى مكان الابتلاء ارتفعت عنهن فى رؤية يوسف الشهوة والبشرية لغلبة انوار العظمة والهيبة فلا جرم ما شعرن الام قطع ايديهن ولو قرض غلة زليخا لشعرت بذلك لانها فى لطافة العشق وما اطاقت من لطف حالها ان تحمل الما غير الم العشق وهذا كمال فى انس المعشوق ولا يعلم ذلك الا ذو عشق كامل قال بعضهم فى قوله واعتدت لهن متكا اجلستهن مجالس وطئه ليكون ابين لحركتهن فى مشاهدة يوسف واسقط للملامة والتغيير عنها واظهر لما يبدوا عليهن من لقاء يوسف وقال بعضهم فى قوله فلما راينه اكبرنه شاهدن حسنا خاليا عن مواضع الشهوة مؤيدا بعصمة النبوة فاكبرنه وقال جعفر سرّ هيبة النبوة عليهن مواضع ارادتهن منه فاكبرنه قال ابو سعيد الخراز الماخوذ فى حال المشاهدة غائبا عن حسنه بائنا عن نفسه لا يحس بما جرى عليه قال الله فلما راينه اكبرنه الآية قال ابن عطا دهش فى يوسف وتحيرون حتى قطعن ايديهن فهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن ياخذه مشاهدة من الحق فلم ينكر عليه يتغير صفاته عليه او ينطق فى الوقت على حد الغلبة بمراى كغيره وقيل فى قوله اكبرنه لانه كان مؤيدا بالعصمة فشغلهن هيبة العصمة فلم تنظر احداهن اليه نظر شهوة وقال سهل ا هذا الا ملك فى اخلاقه بشرا فى صورته قال محمد بن على ما هذا باطل ان يدعى الى المباشرة بل مثله يكرم وينزه عن مواضع الشبهة والاعتراضات لكرام اخلاقه ولطف شمايله قيل ان اهل مص رمكثوا اربعة اشهر لم يكن لهم عذاء الا النظر الى وجه يوسف كانوا اذا جاعوا نظروا الى وجهه فشبعوا ويزول عنهم الجوع فلما رات شان النسوة وفناهن عن عقولهن صبرت حتى مر يوسف عليهن وافقن وشمتت بهن { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } ارادت ان يذقن ما ذاقت من حب يوسف ويخرجن من ملامتها لان من لم يعرف طعم المحبة عَذل اهلها فانظرى واقطنى لى ترى حرقا من لم يذق طرفا منها فقد والا نظر اهل الملامة نظر سرك حيث كانوا محجوبين عن رؤية سبق المقادير وان العشق خارج عن حدود الاكتساب

خليلى انى قلت بالعدل مرة ومنذ علاتى الحب مذهبى الجبر

وانشد الحسين

ما لامنى فيك احبابى واعدائى الا بجهلهم من عظم بلوائى
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلى بحبك ما دينى ودنيائى
اشعلت فى كبدى نارين واحدة بين الضلوع واخرى بين احشائى
ولا هممت يشرب الماء من عطش الا رايت خيالا منك فى المائى
النار ابرد من ثلج على كبدى والسيف الين بى من هجر مولائى

قال النصرابادى طلب العذر فى العشق من نقصان العشق وانما العشق الحقيقى ما غلب على صاحبه والهاء عن الاشغال الا بمحبوبه وقال بعضهم لمتنبى فيه بغيتنى نصرعتن وانشد

وكنت اذا ما حدث الناس بالهوى ضحكت وهم يبكون من حسرات
فصرت اذا ما قيل هذا ميتتم بلقيتهم بالنوح والعبرات

فلما رات زليخا عذر النسوة ارادت ان يعرفهن طهارة يوسف فقالت { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ } اى هو مقدس عن جميع التهم وباطنه احسن من ظاهره لان باطنه مطهر عن دنس الشهوة وعلة البشرية ومراودة السوء والفحشاء معصوم بانوا رالنبوة والرسالة وارادت بذلك ان يرينه اكبر مما يرينه ثم قالت { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } خوف يوسف من البلاء وكيف يخاف من يكون فى رؤية المبلى مؤيدا بعناية ازلية معصوما عن معصية وقولها فى ذلك من استغراقها فى الحب والعشق وقال بعضهم ما كان يلحق يوسف من السجن والمحبة انما كان من ترادف البلاء على زليخا وهيجان المحبة به فربما كان تصيب يوسف من اطراف بلائه شيئا بالسجن والهم وغير ذلك وهذا من تمام المحبة وشدة البلاء

ان لشارك المحبوب محبة فى بلائه وانشدت ليلى صاحبه مجنون
لم يكن المجنون فى حاله الا وقد كنت كما كانا
لكنه باج بسر الهوى واننى قد قدمت كتمانا

فلما راى يوسف تملقهن ومكرهن واحتيالهن فى دعائهن يوسف الى طاعة زليخا التجأ الى الله وتضرع بين يديه بقوله { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } اى يا رب البلاء احب الى من لذة الوقت وشهوة النفس التى تحتجبنى عنك وعن شهوة الروحانى ورؤية آثار الربوبية وايضا السجن احب الى لان فى السجن مقام الانس والخلوة والمناجات والمداناة والمشاهدات والمواصلات وانى اختار رضاك واوثر مرادك على حظ نفسى وفيه اشارة لطيفة اى السجن احب الى اذا كنت محبوسا لزليخا حتى يزيد عشقها على عشقها ويكون عشقها عشقا روحانيا وعشقا رحمانيا وتحترق بنيران عشقها علل الانسانية وشهوة البشرية والا تصرف عنى بعصمتك القديمة كيدهن فى اظهار حسنهن او جمالهن وزينتهن على وتميل نفسى اليهن واكن من الجاهلين من الموثرين حظوظ انفسهم على حظ مشاهدتك وقربتك وايضًا من الجاهلين بانفسهم وايضًا من الجاهلين بقدرتك على عقوبة الاسرار وضرب الحجاب بينها وبين الانوار قال الواسطى منعك اياى عنهن بنزع القدرة عنى احب الى مما يدعوننى اليه من طلب الحظوظ قال بعضهم توهم يوسف ان السجن ينجيه من الفتنة فاوقعه فى الفتنة الكبرى حتى قال لصاحب السجن اذكرنى عند ربك وقال ابن عطا السجن احب الى مما يدعوننى من الزنا فالاختيار افسد عليه امره لعلمه لو ترك الاختيار لكان معصوما من غير امتحان بالسجن كما كان معصوما فى وقت المراودة وقال الجنيد لما جاء بالافتقار لا بالمسالة فى صرف كيد الباغين عنه واشفق من دخول الصبوة عليه التى لا مدفع الا بتائيد العصمة فاسعده الاجابة ومنع كيد الشيطان وتسلطه واخرج من البلاء بقبول حسن ما تقدم من الوعيد قيل ان يدخل فيه وبمثل هذا يتعزى اهل المعرفة.