التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ
٢١
هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٢٢
-يونس

تفسير القرآن

{ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء } قد مرّ أن أنواع البلاء من الضراء والبأساء وصنوف اللأواء تكسر شرّة النفس، وتلطف القلب بكشف حجب صفات النفس وترقيق كثافات الطبع ورفع غشاوات الهوى، فلذا تنزع قلوبهم بالطبع إلى مبدئها في تلك الحالة لرجوعها إلى مقتضى فطرتها حينئذ وعودها إلى نوريتها الأصلية وقوتها الفطرية وميلها إلى العروج الذي هو في سنخها لزوال المانع بل الميل إلى الجهة العلوية والمبادئ النورية مفطور في طباع القوى الملكوتية كلها. حتى النفس الحيوانية لو تزكت عن الهيئات البدنية الظلمانية فإن التسفل من العوارض الجسمانية حتى أن البهائم والوحوش إذا اشتدت الحال عليها في أوقات المحل وأيام الجدب اجتمعت رافعة رؤوسها إلى السماء كأن ملكوتها يشعر بنزول الفيض من الجهة العلوية فتستمدّ منها فكذا إذا توافرت على الناس النِعَم الظاهرة وتكاملت عليهم الأمداد الطبيعية والمرادات الجسمانية قويت النفس من مدد الجهة السفلية واستطالت قواها بالترفع على القلب وتكاثف الحجاب وغلظ وتسلط الهوى وغلب، وصارت السلطنة للطبيعة الجسمانية، وارتكمت الهيئات البدنية الظلمانية فتشكل القلب بهيئة النفس وقسا وغلظ وطغى، وأبطرته النعمة فكفر وعمى ومال إلى الجهة السفلية لبعده عن الهيئة النورية حينئذ. وبقدر استيلاء النفس على القلب يستولي الوهم على العقل، فتستولي الشيطنة لكون القوة العاقلة أسيرة في قيد الوهم مأمورة له يستعملها في مطالبه ويستسعيها في مآربه من تحصيل لذات النفس وإمدادها من عالم الرجس وتقوية صفاتها بأهب عالم الطبع وعدد مواد الحظ بالفكر، فيحتجب القلب بالرين عن قبول صفات الحق بالكلية، وذلك معنى قوله: { إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكراً } بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري وتعبية عذاب نيران الحرمان وحيات هيئات الرذائل والعقارب السود ولباس القطران في هذه الرحمة الظاهرة.
{ إن رُسُلنا يَكْتبون ما تمكرون } قد علمت أن الملكوت السماوية تنتقش بكل حادثة تقع في هذا العالم فكل عمل حسن أو قبيح يصدر عن أحد فقد كتب عليه في تلك الألواح وقد اتصل ملكوت كل بدن بتلك المبادئ الملكوتية فمتى هممنا بحسنة أو سيئة ارتسمت صورته في ملكوت أبداننا على سبيل الخاطر أولاً ثم أخذنا في الفكر فيه، فإن استحكم النقش وانبعثت منه العزيمة حتى امتثلنا الخاطر الأول بالإرادة الجازمة انطبع بإقدامنا على الفعل إلا أنه إن كان حسنة انطبع في الحال في جهة القلب التي تلي الروح ولوح الفؤاد المنوّر بنوره وكتبته القوة العاقلة العملية التي هي صاحب اليمين من الملكين الموكلين المشار إليهما بقوله تعالى:
{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق، الآية: 17] إذ الفؤاد هو الجانب الأقوى منه وإن كان سيئة لا ينطبع في الحال لبعد الهيئة الظلمانية من القلب وعدم مناسبته إياها بالذات، فإن أدركه التوفيق وتلألأ عليه نور من أنوار الهداية الروحانية ندم واستغفر فمحى عنه، وعفى له، وإن لم يتداركه بقي متلجلجاً حتى أمدّته النفس بظلمة صفاتها فاستقرّ في لوح الصدر الذي هو وجه القلب الذي يلي النفس المظلم بظلمة النفس الغالبة عليه في صدور هذا الفعل منه وكتبته القوة المتخيلة التي هي صاحب الشمال إذ هذا الجانب هو الأضعف وهذا هو المراد من قولهم: صاحب الشمال لا يكتب السيئة حتى تمضي ست ساعات فإن استغفر فيها صاحبها لم تكتب، وإن أصرّ كتبته. ويفهم من هذا التقرير إيتاء الكتاب بيمين المسلم وشمال الكافر، وأما صورة الإيتاء وكيفيته فقد تجيء في موضعها إن شاء الله تعالى.