التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ
١٦٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ
١٦٧
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
١٦٨
-البقرة

تفسير القرآن

{ إذ تبرأ } بدل من: إذ يرون العذاب، أي: وقت رؤيتهم العذاب هو وقت تبرّئ المتبوعين من التابعين مع لزوم كلّ منهم الآخر بمقتضى المحبة التي كانت بينهم لتعذب كلّ منهم بالآخر وتقيده واحتجابه به عن كمالاته ولذاته وانقطاع الأسباب والوصل الموجبة للفوائد والتمتعات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابة، والرحم، والإلفة، والعهد، وسائر المواصلات الدنيوية الجالبة للنفع واللذة، فإنها تنقطع كلها بانقطاع لوازمها وموجباتها دون المواصلات الخيرية والمحبّات الإلهية المبنية على المناسبة الروحية والتعارف الأزليّ، فإنها تبقى ببقاء الروح أبداً وتزيد في الآخرة بعد رفع الحجب البدنية لاقتضائها محبة الله المفيدة في الآخرة، كما قال تعالى: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ" . والواو في { ورأوا العذاب } واو الحال، أي: تبرّؤوا عنهم في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الوصل بينهم، يعني: حال ظهور شرّ المقارنة وتبعتها، ونفاد خيرها وفائدتها، كحال سفاح الكلاب مثلاً { وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرّة } أي: ليت لنا كرّة { كذلك يُرِيهم الله أعمالهم حَسَرات عليهم } أي: تنقلب محباتهم وما يبنى عليها من الأعمال حسرات عليهم، وكذا يكون حال القوى الروحانية المصادقة للقوى النفسانية التابعة لها، المسخّرة إياها في تحصيل لذاتها.
{ يا أيها الناس كُلُوا مما في الأرض } أي: تناولوا من اللذّات والتمتعات التي في الجهة السفلية من عالم النفس والبدن على وجه يحلّ ويطيب، أي: على قانون العدالة بإذن الشرع واستصواب العقل بقدر الاحتياج والضرورة، ولا تخطوا حدّ الاعتدال الذي به تطيب وتنفع إلى حدود الإسراف، فإنها خطوات الشيطان. ولهذا قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ } [الإسراء، الآية: 27] فإنه عدوٌ لكم. بيّن العداوة يريد أن يهلككم ويبغضكم إلى ربكم بارتكاب الإسرافات المذمومة فإنه لا يحب المسرفين. واعلم أن العداوة في عالم النفس هي ظلّ الإلفة في عالم القلب، والاعتدال ظلها في عالم البدن، والإلفة ظلّ المحبة في عالم الروح وهي ظلّ الوحدة الحقيقية. فالاعتدال هو الظلّ الرابع للوحدة والشيطان يفرّ من ظلّ الحق ولا يطيقه فيخطو أبداً في مجال تلك الظلال إلى جوانب الإسرافات وحيث يعجز فإلى جوانب التفريطات كما في المحبة والإلفة، ولهذا قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرّطاً"، فإن الجاهل سخرة الشيطان.