التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
-البقرة

تفسير القرآن

{ وإذْ قال موسى لِقومِه إن الله يَأمركم أنْ تذبحوا بَقرةً } هي النفس الحيوانية، وذبحها قمع هواها الذي هو حياتها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة { قالوا أتتخذنا } مهزوّاً بنا، وتستخفنا لنطيعك ونتسخر لك كما جاء في حق فرعون: فاستخف قومه فأطاعوه. { قال أعوذُ بالله أنْ أكونَ مِن الجاهلين } الاستخفاف والاستهزاء وطلب الترؤس هو فعل الجهال.
{ قالوا ادْعُ لنَا ربك يُبين لنا ما هِيَ } أي: سل لنا ربّك ما هي { إنهَا بقرةٌ لا فارِضٌ } أي: غير مسنّة لزوال استعدادها ورسوخ اعتقادها وضراوتها بعاداتها كما قيل: الصوفيّ بعد الأربعين بارد. { ولا بِكْرٌ } أي: فتيّة، لقصور استعدادها عما يراد منها وعسر احتمالها للرّياضة لغلبة القوى الطبيعية وقوتها فيها { عَوَانٌ } نصفة { بين } ما ذكر { صفراء } لأن لون الجسم أسود لعدم النورية فيه أصلاً، ولون النفس النباتية أخضر لظهور النورية فيها، وغلبة السواد عليها لعدم إدراكها، ولون القلب أبيض لتجرّده عن الجسم، وقوّة إدراكه، وكمال نوريته. فلزم أن يكون لون النفس الحيوانية في الحيوانات العجم أحمر لتركب نورية إدراكها وسواد تعلقها بالجسم، إذ الحمرة لون بين البياض والسواد ومركب منهما، لكن السواد فيه أكثر. وفي الإنسان أصفر لغلبة نورية إدراكها بمجاورة القلب، إذ الصفرة حمرة عليها البياض { فاقعٌ لونها } لصفاء استعدادها وشعشعان شعاع نور القلب عليها { تسر الناظرينَ } لقوة نور استعدادها وتشعشعها والناظرون هم الكاملون المطلعون على الاستعدادات لوجوب محبتهم للمستعدّين المستبصرين وذوقهم بحضورهم. { إنّ البقَرَ تشابه علينا } لكثرة البقر الموصوف بهذه الصفة، أي: كثرة أصناف المستعدّين وما كل مستعدّ طالباً. كما قيل: ما كلّ طبع قابلاً ولا كل قابل طالباً، ولا كلّ طالب صابراً، ولا كلّ صابر واجداً. { وإنّا إنْ شاء الله لمهتدون } إلى ذبح هذه البقرة. وقولهم: إن شاء الله، دليل على استعدادهم لعلمهم بأن الأمور متعلقة بمشيئة الله، ميسّرة بتوفيقه. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو لم يستثنوا لما ظفروا بها أبد الدهر" .
{ لا ذَلولٌ } غير مذللة، منقادة لأمر الشرع { تثيرُ } أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة والعبادات { ولا تسقي } حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوّة باستقاء ماء العلوم الكسبية والأفكار الثاقبة، لعدم احتياج مثل هذه البقرة إلى الذبح { مُسلمةٌ } سلمها أهلها لترعى، غير مسوسة برسوم وعادات وشرائع وآداب { لا شِيةَ فيها } أي: لم يرسخ فيها اعتقاد ومذهب لعدم صلاحيتها للذبح.
{ جِئتَ بالحقِ } الثابت في بيان المستعد المشتاق، الطالب للكمال { فذبحوها وما كادوا يَفعلون } لكثرة سؤالاتهم ومبالغاتهم وتعمقهم في البحث والتفتيش عن حالها، وفضول كلامهم في بيانها التي تدلّ على عدم انقياد النفس بالسرعة، وإبائها للرياضة، وغلبة الفضول عليها، وتعذر مطلوبهم، وتأخرهم عنه بسبب ذلك. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم" ، أي: لو لم يكن منهم كثرة فضول البحث والسؤال لما عزّ عليهم مطلوبهم لقوّة قبولهم وإرادتهم، فكان سلس القياد، سهل الانقياد. ونهى صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، وقال: "إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال" . قال الله تعالى: { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [المائدة، الآية: 101].
وقيل في قصتها: إنّ شيخاً من بني إسرائيل نتجت له عجلة على هذه الصفة، وكان له ابن طفل، فجاء بها إلى عجوز وقال: إنها لهذا الطفل، سلميها في مرعاها عساها تنفعه إذا بلغ. فلما وقعت هذه الواقعة وسعى بنو إسرائيل في طلب البقرة أربعين سنة سمعت العجوز بها، فأخبرت ابنها بما فعل أبوه وقد ترعرع، فجاء إلى المرعى فوجدها، فأتى بها فساوموه في شرائها ومنعته العجوز عن بيعها حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً. فالشيخ هو الروح، والعجوز الطبيعة الجسمانية، وابنه الطفل هو العقل الذي هو نتيجة الروح، والشابّ المقتول هو القلب.
سلّم شيخ الروح عجل النفس إلى عجوز الطبع ليرعى في مرعى اللذت الطبيعية حتى يكبر عسى طفل العقل أن ينتفع بها وقت البلوغ في انتزاع المعقولات من محسوساتها واستعمال الفكر الذي هو من قواها في اكتساب العلوم العقلية. وهو الذي جاء بها من المرعى وسعي بني إسرائيل أربعين سنة إشارة إلى السير إلى الله بالأعمال والآداب والتخلق بالأخلاق، إلى أوان البلوغ الحقيقي، وتجرّد القلب، كما قال الله تعالى:
{ { بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف، الآية: 15]. ومساومتهم إياها في شرائها إشارة غلى طلب القوى الروحانية المنوّرة بنور الهداية الشرعية والإرادة، وانتزاعها من العقل المشوب بالوهم، واستعباد العقل إياها بالمعقولات القياسية، وتسخيرها بالفكريات، وحجبها عن نور الهداية الشرعية بالقياسات العقلية، وعدم تحليتها بالشرعيات. وهذا هو الموجب لتشدّدهم في السؤال وتأخرهم وتباطئهم في الامتثال. ومنع العجوز إياه هو ممانعة الطبع في الانقياد للشرع، وموافقة العقل إياه في ذلك لرعاية العقل جانب الطبع في مصالح المعاش وترفيهه إياه، وترخيصه والتوسيع عليه أكثر من الشرع. وبيعها بملء مسكها ذهباً إشارة إلى تحليها بعد الذبح والسلخ بالعلوم النافعة الشرعية والعقلية الخلقية والأحكام الفرعية الدينية، واشتمال صورتها عليها التي توافق العقل والطبع وتنفعهما باستعمالهما إياها في تحصيل مصالح المعاش والمباغي الطبيعية والمطالب العقلية العملية بإذن الشرع من الوجه الحلال والتصرّف المباح وأنواع الرخص في جميع التمتعات بعد حصول الكمال وتمام السلوك.