التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٣
قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
٢٤
قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٥
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٦
-المائدة

تفسير القرآن

{ قال رجلان من الذين يخافون } كانا من النقباء الإثني عشر وهم: العقل النظري والعقل العلمي يخافون سوء عاقبة ملازمة الجسم ووبال العقوبة بهيآته المظلمة { أنعَمَ الله عليهماْ } بالهداية إلى الطريق المسقيم والدين القويم { ادْخلوا عليهم الباب } باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أنّ باب قرية الروح هو الرضا { فإذا } دخلتم مقام التوكل الذي هو باب القرية { فإنكم غَالِبون } بخروجكم عن أفعالكم وعن أحوالكم وبكونكم فاعلين بالله، وإذا كان الحول والقوة بالله يهرب شيطان الوهم والتخيل والهوى والغضب منكم فغلبتم عليهم. ويدلّ على أن الباب هو التوكل قوله: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } بالحقيقة، إذ الإيمان بالغيبة عن المؤمن به أقل درجات حضور تجلي الأفعال { قالوا يا موسى } أي: أصروا على إبائهم وامتناعهم عن الدخول { فاذْهَب أنتَ وربكَ } أي: إن كنت نبيّاً فادفعهم عنا بقوة نفسك، واقمع الهوى، وتلك القوى فينا بلا رياضة ومجاهدة منا، وسل ربّك يدفعها عنا كما يقول الشطّار والوغود عند موعظتك إياهم، وزجرك وتهديدك لهم. ادفع بهمتك عنا هذه الشقاوة إمّا استهزاء وعناداً وإما جدّاً واعتقاداً { إنّا ها هنا قاعدون } ملازمون مكاننا في مقام النفس، معتكفون على هوى نفوسنا ولذات أبداننا كما قالوا: حطاً سمقاثاً.
{ قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتِيهون في الأرض } هي مدة بقائهم في مقام النفس، أي: بقوا في تيع الطبيعة يتحيرون أربعين سنة إلى قرية القلب، فإنّ دخول مقام القلب مع استيلاء جبابرة صفات النفس عليه حرام ممتنع، ولهذا قال تعالى:
{ { بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف، الآية: 15]، فإنه وقت البلوغ الحقيقي. وقيل في قصة التيه: إنهم كانوا يسيرون جادّين طول النهار في ستة فراسخ، فإذا أمسوا كانوا على المقام الذي ارتحلوا عنه، أي: كان سعيهم في تحصيل المناجح الجسمانية والمباغي البدنية المحصورة في الجهات الست ولم يخرجوا عن الجهات بالتجرد، فكانوا على المقام الأول لعدم توجههم إلى سمت القلب بطلب التجرد والتنزّه عن الهيآت البدنية والصفات النفسانية. وكان ينزل من السماء بالليل عمود من نار يسيرون وينتفعون بضوئه، أي: ينزل عليهم نور عقل المعاش من سماء الروح فيهتدون به إلى مصالحهم. وقيل: من نار لأنه عقل مشوب بالوهم ليس عقلاً صرفاً، وإلا لاهتدوا به إلى طريق القلب. وأما الغمام والمنّ والسلوى فقد مرّ ذكرها وتأويلها وقيل: كان على كل مولود ولد في التيه قميص بقدر قامته يزيد بزيادته، يعنون به: لباس البدن والله أعلم. وإن شئت أن تطبق القصة على حالك أوّلت موسى بالقلب وهارون بالروح، فإنه كان أخاه الأكبر، ولهذا قال: { هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [القصص، الآية: 34] وبني إسرائيل بالقوّة الروحانية، والأرض المقدّسة بالنفس المطمئنة، ثم أجريت القصة بحالها إلى آخرها. { فلا تَأْس } أي: لا تهتهم بهدايتهم، ولا تغتمّ على عقوبتهم، فإنهم فسقوا وخرجوا عن طريق القلب بهواهم وطغيانهم.