التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٤٧
-هود

روح البيان في تفسير القرآن

{ قال } عند ذلك قبلت يا ربى هذا التكليف فلا اعود اليه الا انى لا اقدر على الاحتراز منه الا باعانتك وهدايتك فلهذا بدأ اولا بقوله { رب انى اعوذ بك ان اسألك } اى من اطلب منك من بعده { ما ليس لى به علم } اى مطلوبا لا اعلم ان حصوله مقتضى الحكمة يعنى احفظنى بعد اليوم من المعاودة الى مثل السؤال وكان على قدم الاستغفار الى ان توفى وهذه عادة الصالحين انهم اذا وعظوا اتعظوا واذا نبهوا للخطأ استغفروا وتعوذوا وحكى تعالى ما كان من الانبياء عليهم السلام ليقتدى بهم فى الاستغفار وان لا يقطع الرجاء من رحمة الله تعالى وقد قبل الله تعالى توبة نوح عليه السلام كما يدل عليه قوله تعالى { { قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات } ثم حقيقة التوبة تقتضى امرين احدهما العزم على ترك الفعل فى المستقبل واليه الاشارة بقوله { انى اعوذ بك الخ } والآخر الندم والاستغفار لما مضى واليه الاشارة بقوله { والا } مركب من ان ولا ثم ادغم احدهما فى الآخر { تغفر لى } اى وان لم تغفر لى ما صدر منى من السؤال المذكور { وترحمنى } بقبول توبتى { اكن من الخاسرين } اعمالا بسبب ذلك فان الذهول عن شكر الله لا سيما عند وصول مثل هذه النعمة الجليلة التى هى النجاة وهلاك الاعداء والاشتغال بما لا يعنى خصوصا بمبادى خلاص من قيل فى شأنه انه غير صالح والتضرع الى الله تعالى فى امره معاملة غير رابحة وخسران مبين.
واعلم ان التوبة والاستغفار والالتجاء الى الملك الغفار ورد لا ينقطع الى الموت وفعل يستمر الى زمان الفوت لان المؤمن لا يزل متقلبا بين التنزلات والترقيات والسالك لا يبرح مبتلى بالاستتار والتجليات والكامل لا ينفك يتدرج الى غايات مراتب السير فى عوالم الصفات والذات. وهذا نوح قد سأل ما سأل ثم تاب. وهذا موسى قد طلب ما طلب ثم اناب والكل جار بقضاء الله وقدره فانه اذا جاء يتعطل العبد عن قواه وقدره: وفى المثنوى

اين هم از تأثير حكمست وقدر جاء مى بينى ونتوا بى حذر
نيست خودازمرغ يران اين عجب كو نبيند دام وافتد در عطب
اين عجب كه دام بيند هم وتد كر بخواهد ورنخواهد مى فتد
جشم باز وش باز ودام بيش سوى دامى مى برد بابر خويش

ألا ترى الى نوح عليه السلام فانه لما ابتدر الى سؤال ابنه نبه على تركه مرات
والاشارة
{ { ونادى نوح } اى نوح الروح { { ربه فقال رب ان ابنى من اهلى } اى النفس المتولدة من ازدواج الروح والقالب من اهلى { { وان وعدك الحق } ذلك ان الله تعالى لما اراد حكمته ان ينزل الارواح المقدسة العلوية من اعلى عليين جواره وقربه الى اسفل سافلين القالب قال ارواح الانبياء والاولياء وخواص المؤمنين يا ربنا والهنا تنزلنا من اعلى مقامات قربك الى اسفل دركات بعدك ومن عالم البقاء الى عالم الفناء ومن جار السرور واللقاء الى دار الحزن والبلاء ومن منزل التجرد والتواصل الى منزل التوالد والتناسل ومن رتبة الاصطفاء والاجتباء الى رتبة الاجتهاد والابتلاء فوعدهم الله من عواطف احسانه بان ينجيهم واهليهم من ورطات الهلاك فكما ان من قضية حكمته ان يكون لنوح اربعة بنين ثلاثة منهم مؤمنون وواحد كافر فكذلك حكمته اقتضت ان يكون للروح اربعة بنين ثلاثة منهم مؤمنون وهم القلب والسر والعقل وواحد كافر وهو النفس فكما كان ثلاثة من بنى نوح معه فى السفينة وكان واحد فى معزل منه فكذلك ثلاثة من بنى الروح معه كانوا فى سفينة الشريعة وكان واحد وهو كافر النفس فى معزل منه ومن الدين والشريعة فلما اشرف ولده الكافر على الغرق فى بحر الدنيا وطوفان الفتن قال رب ان ابنى من اهلى وان وعدك الحق { { وانت احكم الحاكمين } يعنى فان انجيته او اغرقته انت اعدل العادلين فيما تفعله لانك حكيم واحكم الحكماء لا تخلو افعالك من عدل وحكمة انت اعلم بها { قال } اى الرب تعالى للروح { { يا نوح انه ليس من اهلك } اى من اهل دينك وملتك والاهلية على نوعين اهلية القرابة والدين وما نفى اهلية القرابة لتولدها من الروح ثم اظهر علة نفى الاهلية الدينية فقال (انه عمل غير صالح) اى خلق للامارية بالسوء وهذه سيرتها ابدا ثم ادب الروح آداب اهل القربة فقال { فلا تسألن ما ليس لك به علم } اى علم حقيقى بان يجوز اهل القربة على بساط القرب هذا الانبساط ام لا { { انى اعظك } يا روح القدس { { ان تكون } على البساط بهذا الانبساط { { من الجاهلين } اى من النفوس الجاهلة الظالمة. وفيه اشارة الى ان الروح العالم العلوى يصير بمتابعة النفس وهواها جاهل سفلىّ الطبع دنئ الهمة { قال } اى الروح { رب انى اعوذ بك ان اسألك ما ليس لى به علم } من التماس نجاة النفس الممتحنة بآفات الدنيا وشهواتها من طوفان الفتن { والا تغفر لى } تؤيدنى بانورا المغفرة { وترحمنى } على عجزى عن الاهتداء بغير هداك { اكن من الخاسرين } يشير الى الرحمة هى المانعة للروح من الخسران كذا فى التأويلات النجمية