التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
-يوسف

روح البيان في تفسير القرآن

كما قال تعالى { ولقد همت به } الهم عقد القلب على فعل شيء قبل ان يفعل من خير او شر وهو القصد والمراد همت بمخالطته ومجامعته اذ الهم لا يتعلق بالاعيان اى قصدتها وعزمت عليها عزما جازما بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليق الابواب ودعوته الى نفسها بقولها هيت لك ولعلها تصدت هنالك لافعال اخر من بسط يدها اليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما يضطره الى الهرب نحو الباب والتأكيد لدفع ما عسى يتوهّم من اختصاص اقلاعها عما كانت عليه بما فى مقالته من الزواجر { وهمّ بها } بمخالطتها اى مال اليها بمقتضى الطبيعة البشرية وشهوة الشباب ميلا جبليا لا يكاد يدخل تحت التكليف لا قصدا اختياريا لانه كما انه بريء من ارتكاب نفس الفاحشة والعمل الباطل كذلك بريء من الهمّ المحرم وانما عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعه فى صحبة همها فى الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهة به ولقد اشير الى تباينهما بانه لم يقل ولقد هما بالمخالطة او هم كل منهما بالآخر.
قال حضرة الشيخ افتاده قدس سره { وهمّ بها } اى هجم للطبيعة فقمع مقتضاها ولم يعط حكمها فان عدم تقاضيها نقصان بل الكمال ان لا يعطى لها حكمها مع غاية التوقان فيترقى به الانسان وينال المراتب العالية عند الرحمن الا ترى ان العنين لا يمدح على ترك الجماع: وفى المثنوى

هين مكن خودرا خصى رهبان مشو زانكه عفت هست شهوترا كرو
بى هوا نهى ازهوا ممكن نبود هم غزابا مرد كان نتوان نمود

قال الشافعى اربعة لا يعبأ الله بهم يوم القيامة زهد خصى وتقوى جندى وامانة امرأة وعبادة صبى وهو محمول على الغالب كما فى المقاصد الحسنة -وروى- فى الخبر انه ليس من نبى الا وقد اخطأ وهم بخطيئة غير يحيى بن زكريا ولكنهم كانوا معصومين من الفواحش. فمن نسب الى الانبياء الفواحش كالعزم على الزنى ونحوه الذى يقوله الحشوية فى يوسف كفر لانه شتم لهم كذا فى القنية.
قال بعض ارباب الاحوال كنت بمجلس بعض القصاص فقال ما سلم احد من هوى ولا فلان وسمى من لا يليق ذكره فى هذا المقام العظم الشأن فقلت اتق الله فقال ألم يقل (حبب الىّ) فقلت ويحك قال حبب ولم يقل احببت ثم قال خرجت بالهمّ فرأيت النبى عليه السلام فقال لا تهتم فقد قتلناه قال فخرج ذلك القاص الى بعض القرى فقتله بعض قطاع الطريق { لولا ان رأى برهان ربه } اى حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنى. والمراد برؤيته لها كمال ايقانه ومشاهدته لها مشاهدة واصلة الى مرتبة عين اليقين التى تتجلى هناك حقائق الاشياء بصورها الحقيقة وتنخلع عن صورها المستعارة التى بها تظفر فى هذه النشأة على ما نطق به قوله عليه السلام
"حفت الجنة بالمكاره وخفت النار بالشهوات" وكأنه قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه فى حد ذاته اقبح ما يكون. وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام اى لولا مشاهدته برهان ربه فى شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلى لعدم المانع الظاهر ولكنه حيث كان شاهدا له من قبل استمر على ما هو عليه من قضية البرهان وفائدته هذه الشرطية بيان ان امتناعه لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل بمحض العفة والنزاهة مع وفور الدواعى الداخلية وترتب المقدمات الخارجية الموجبة لظهور الاحكام الطبيعية هذ.ا
وقد نص ائمة الصناعة على ان لو فى امثال هذه المواقع جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقييد للحكم المطلق كما فى مثل قوله تعالى
{ { ان كاد ليضلنا عن الهتنا لولا ان صبرنا عليها } فلا تتحقق هناك همّ اصلا وقالوا البرهان ما رأى فى جانب البيت مكتوبا ولا تقربوا الزنى او قال له ملك تهمّ بفعل السفهاء وانت مكتوب فى ديوان الانبياء او انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضا على يديه وبه كان يخوف صغيرا او رأى شخصا يقول له يا يوسف انظر الى يمينك فنظر فرأى ثعبانا اعظم ما يكون فقال هذا يكون فى بطن الزانى غدا { كذلك } الكاف منصوب المحل وذك اشارة الى الاراءة المدلول عليها بقوله تعالى { لولا ان رأى برهان ربه } اى مثل ذلك التبصير والتعريف عرفناه برهاننا فيما قبل { لنصرف عنه السوء } خيانة السيد { والفحشاء } والزنى لانه مفرط فى القبح. وفيه آية بينة وحجة قاطعة على انه لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه اليها قط والا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء وانما توجه اليه ذلك من خارج فصرفه تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة والعصمة كما فى الارشاد { انه من عبادنا المخلصين } الذين اخلصهم الله لطاعة بان عصمهم مما هو قادح فيها
وفيه دليل على ان الشيطان لم يجد الى اغوائه سبيلا ألا يرى الى قوله
{ { فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين
} قال فى بحر العلوم واعلم انه تعالى شهد ببراءته من الذنب ومدحه بانه من المحسنين وانه من عباده من المخلصين فوجب على كل احد ان لا يتوقف فى نزاهته وطهارة ذيله وعفته وتثبته فى مواقع العثار.
قال الحسن لم يقص الله عليكم ما حكى من اخبار الانبياء تعبيرا لهم لكن لئلا تقنطوا من رحمته لان الحجة للانبياء الزم فاذا اقبلت توبتهم كان قبولها من غيرهم اسرع وعدم ذكر توبة يوسف دليل على عدم معصيته لانه تعالى ما ذكر معصية عن الانبياء وان صغرت الا وذكر توبتهم واستغفارهم منها كآدم ونوح وداود وابراهيم وسليمان عليهم السلام
والاشارة ان يوسف القلب وان بلغ اعلى مراتبه فى مقام الحقيقة وفنائه عن صفات الانانية واستغراقه فى بحر صفات الهوية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا مادام هو فى بيتها وهو الجسد فان الجسد للقلب بيت دنيوى. فالمعنى انه { وراودته } يوسف القلب زليخا الدنيا { التى هو } يوسف القلب { فى بيتها } اى فى الجسد الدنيوى اى { عن نفسه } لما رأت فى نفسه لتعلقه بالجسد داعية الاحتظاظ من الحظوظ الدنيوية ليحتظ منها وتحتظ منه { وغلقت الابواب } وهى ابواب اركان الشريعة يعنى اذا فتحت الدنيا على القلب ابواب شهواتها وحظوظها غلقت عليه ابواب الشريعة التى تدخل منها انوار الرحمة والهداية ونفحات الالطاف والعناية { وقالت } اى الدنيا { هيت لك } اقبل الى واعرض عن الحق { قال } يعنى القلب الفانى عن نفسه الباقى بربه { معاذ الله } اى فياذى بالله مما سواه { انه ربى } الذى ربانى بلبان الطاف ربوبيته { احسن مثواى } اى مقامى فى عالم الحقيقة فلا اعرض عنه { انه لا يفلح الظالمون } الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى { ولقد همت به } اى همت الدنيا بالقلب لما ترى فيه من الحاجة الضرورية الانسانية اليها { وهم بها } اى هم القلب بها فوق الحاجة الضرورية اليها لمشاركة النفس الحريصة على الدنيا ولذاتها { لولا ان رأى } القلب { برهان ربه } وهو نور القناعة التى من نتائج نظر العناية الى قلوب الصادقين { كذلك لنصرف عنه } عن القلب بنظر العناية { السوء } هو الحرص على الدنيا { والفحشاء } وهو لصرف حب الدنيا فيه { انه } قلب كامل { من عبادنا } لا من عباد الدنيا وغيرها { المخلصين } مما سوانا اى المخلصين من جنس الوجود المجازى الموصلين الى الوجود الحقيقى وهذا مقام كمالية القلب ان يكون عبد الله حرا عما سواه فانيا عن اوصاف وجوده باقيا باوصاف ربه كذا فى التأويلات النجمية ـ حكى ـ عن على بن الحسن انه كان فى البيت صنم فقامت زليخا وسترته بثوب فقال لها يوسف لم فعلت هذا قالت استحييت منه ان يرانى على المعصية

دورن برده كرم جايكاهش كه تانبود بسوى من نكاهش
زمن آيين بى دينى نبيند درين كارم كه مى بينى نبيند

فقال يوسف أتستحيين ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه وانا احق ان استحيى من ربى الذى خلقنى فاحسن خلقى. قال فى التبيان ان يوسف لما رأى البرهان قام هاربا مبادرا الى الباب فتبعته زليخا وذلك قوله تعالى