التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
-يوسف

روح البيان في تفسير القرآن

الجزء الثالث عشر من الاجزاء الثلاثين
{ وما ابرئ نفسى } من كلام يوسف عليه السلام اى لا انزهها عن السوء ولا اشهد لها بالبراءة الكلية قاله تواضعا لله تعالى وهضما لنفسه الكريمة لا تزكية لها وعجبا بحالة فى الامانة ومن هذا القبيل قوله عليه السلام
"انا سيد ولد آدم ولا فخر لى" او تحديثا بنعمة الله تعالى عليه فى توفيقه وعصمته اى لا انزهها عن السوء من حيث هى هى ولا اسند هذه الفضيلة اليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله تعالى { ان النفس } اللام للجنس اى جميع النفوس التى من جملتها نفسى فى حد ذاتها { لامارة بالسوء } تأمر القبائح والمعاصى لانها اشد استلذاذا بالباطل والشهوات واميل الى انواع المنكرات ولولا ذلك لما صارت نفوس اكثر الخلق مسخرة لشهواتهم فى استنباط الحيل لقضاء الشهوة وما صدرت منها الشرور اكثر ومن ههنا وجب القول بان كل من كان اوفر عقلا واجل قدرا عند الله كان ابصر بعيوب نفسه ومن كان ابصر بعيوبها كان اعظم اتهاما لنفسه واقل اعجابا { الا ما رحم ربى } من النفوس التى يعصمها من الوقوع فى المهالك ومن جملتها نفسى ونفوس سائر الانبياء ونفوس الملائكة اما الملائكة فانه لم تركب فيهم الشهوة واما الانبياء فهم وان ركبت هى فيهم لكنهم محفوظون بتأييد الله تعالى معصومون فما موصولة بمعنى من. وفيه اشارة الى ان النفس من حيث كالبهائم والاستثناء من النفس او من الضمير المستتر فى امارة كأنه قيل ان النفس لامارة بالسوء الا نفسا رحمها ربى فانها لا تأمر بالسوء او بمعنى الوقت اى هى امارة بالسوء فى كل وقت الا وقت رحمة ربى وعصمته لها ودل على عموم الاوقات صيغة المبالغة فى امارة يقال فى اللغة امرت النفس بشيء فهى آمرة واذا اكثرت الامر فهى امارة { ان ربى غفور } عظيم المغفرة لما يعترى النفوس بموجب طباعها { رحيم } مبالغ فى الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك.
قال فى التأويلات النجمية خلقت النفس على جبلة الامارية بالسوء طبعا حين خليت الى طبعها لا يأتى منها الا الشر ولا تأمر بالسوء ولكن اذا رحمها ربها ونظر اليها بنظر العناية يقلبها من طبعها ويبدل صفاتها ويجعل اماريتها مبدلة بالمأمورية وشريرتها بالخيرية فاذا تنفس صبح الهداية فى ليلة البشرية واضاء افق سماء القلب صارت النفس لوامة تلوم نفسها على سوء فعلتها وندمت على ما صدر عنها من الامارية بالسوء فيتوب الله عليها فان الندم توبة واذا طلعت شمس العناية من افق الهداية صارت النفس ملهمة اذ هى تنورت بانوار شمس العناية فالهمها نورها فجورها وتقواها واذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية واشرقت الارض بنور ربها صارت النفس مطمئنة مستعدة لخطاب ربها بحذبة ارجعى الى ربك راضية مرضية انتهى.
يقول الفقير سلوك الانبياء عليهم السلام وان كان من النفس المطمئنة الى الراضية والمرضية والصافية الا ان طبع النفوس مطلقا اى سواء كانت نفوس الانبياء او غيرهم على الامارية وكون طبعها عليها لا يوجب ظهور آثار الامارة بالنسبة الى الانبياء ولذا لم يقل يوسف عليه السلام ان نفسى لامارة بالسوء بعد ما قال وما ابرئ نفسى بل اطلق القول فى الامارية واستثنى النفوس المعصومة فلولا العصمة لوقع من النفس ما وقع ولذا قال عليه السلام
"رب لا تكلنى الى نفسى طرفة عين ولا اقل من ذلك" فالدليل على امارية مطلق النفوس هذه الآية.
وقد قال ابن الشيخ فى هذه السورة عند قوله تعالى
{ { ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما } يحتمل ان يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الامارية مستعلية عليها قاهرة لها انتهى فاثبت الامارية لنفس يوسف.
وقال سعدى المفتى عند قوله تعالى
{ { اصب اليهن } فى هذه السورة ايضا على قول البيضاوى اى امل الى جانبهن او الى انفسهن بطبعى ومقتضى شهوتى قوله بطبعى اى بسبب طبعى ونفسى الامارة بالسوء انتهى.
وقال حضرة الشيخ نجم الدين دايه قدس سره عند قوله تعالى فى سورة الانعام
{ { وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن } فشيطان الانس نفسه الامارة بالسوء وهى اعدى الاعداء انتهى.
وصرح ايضا بذلك فى مواضع اخر من تأويلاته وهكذا ينبغى ان يفهم ها المقام فانه من مزالق الاقدام وقد رأيت من تحير فيه وزلق ووقع فى هاوية الاضطراب والقلق مع شهرته التامة والعامة فى الافواه القائلة بمكاشفاته ووصوله الى الله فليجتهد العبد مع النفس الامارة حتى يصل الى الاطمئنان فيتخلص من كيدها والتوحيد اقوى الامور فى هذا الباب لانه اشد تأثيرا فى تزكية النفس وطهارتها من الشرك الجلى والخفى.
قال فى نفائس المجالس النفس منبع العناد والخيانة ومعدن الشر والجناية فهى منشأ الفتن فى الانفس والآفاق وسبب ظهور الظلم على الاطلاق فلو حصل بين سلطان الروح ووزير العقل ومفتى القلب اتفاق لارتفع من القوى النفسانية والطبيعية خلاف وشقاق -وحكى- ان ثلاثة اثوار احدها اصفر والثانى ازرق والثالث اسود استولت على جبل باتفاق منها بحيث لم يقدر غيرها ان يرعى فى ذلك الجبل فتشاور الحيوانات يوما فى ذلك فقال اسدانا اتدارك الامر فجاء الى سفح الجبل فلما هجم الاثوار لمنعه قال الاسد يا اخوتى الاثوار اتركننى حتى اكون معكن فانه يحصل بسببى زيادة قوة فرضين باخوته وكونه بينهن فيوما قال للثور الاصفر والازرق ايها الاخوان ألا تريان ان لا مناسبة بيننا وبين الاسود فلو دبرنا فيه لكان خيرا قالا ماذا نفعل قال افعل ما ارى ان سامحتما وسكتتما قالا فافعل ما شئت فأتاه الاسد وهو يرعى فصال عليه فاستمد الثور الاسود من اخويه فلم يلتفتا فافترسه الاسد واكله ثم بعد زمان قال للاصفر يا اخى شعرك يشابه شعرى فبينى وبينك مناسبة تامة ولكن اى مناسبة فى ان يكون هذا الازرق بيننا فتعال حتى نرفعه من البين ويخلو لنا الجبل فقال افعل ما شئت فاتاه وهو يرعى فلما اراد ان يتعرض له خار واستمد من اخيه فلم يرفع له اخوه رأسا فاكله ثم بعد زمان قال للاصفر تهيأ فانى آكلك فانه أى مناسبة فى ان يكون بيننا اخوة واتفاق فتضرع ولكن لم يسمعه الاسد فقال الثور قد كنت اتصور مجيئ هذا الى رأسى منذ ما جاء الى رأس اخى الثور الاسود ما جاء فافترسه واكله فالنفس مثل هذا الاسد اذا ظهرت فى جبل الوجود غلبت على القوى واكلتها وفى هذا التمثيل مواعظ كثيرة لمن تأمل فيه: قال المولى جلال الدين الرومى قدس سره

بيت من بيت نيست اقليمست هزل من هزل نيست تعليمست