التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
-النحل

روح البيان في تفسير القرآن

{ والله } المحيط بكل شئ علما وقدرة { خلقكم } اوجدكم واخرجكم من العدم الى الوجود. وبالفارسية { ازظلمت آباد نا بود بصحراى انوار وجود آورد] { ثم يتوفاكم } اى يقبض ارواحكم على اختلاف الاسنان صبيانا وشبانا وكهولا فلا يقدر الصغير على ان يؤخر ولا الكبير على ان يقدم فمنكم من يموت حال قوته { ومنكم من يرد } قبل توفيه اى يعاد { الى ارذل العمر } اخسه واحقره وهو الهرم والخرف الذى يعود فيه كهيئته الاولى فى اوان طفوليته ضعيف البنية ناقص القوة والعقل قليل الفهم وليس له حد معلوم فى الحقيقة لانه رب ابن ستين انتهى الى ارذل العمر ورب ابن مائة لم يرد اليه. وقال قتادة اذا بلغ تسعين سنة يتعطل عن العمل والتصرف والاكتساب والحج والغزو ونحوها ولذا دعا محمد بن على الواسطى لنفسه فقال

يا رب لا تحينى الى زمن اكون فيه كلا على احد

خذ بيدى قبل ان اقول لمن القاه عند القيام خذ بيدى
وسأل الحجاج شيخا كيف طعمك قال اذا اكلت ثقلت واذا تركت ضعفت فقال كيف نومك قال انام فى المجمع واسهر فى المهجع فقال كيف قيامك وقعودك قال اذا قعدت تباعدت عنى الارض واذا قمت لزمتنى فقال كيف مشيك قال تعقلنى الشعرة وتعثرنى البعرة { لكيلا يعلم بعد علم شيئًا } ليصير الى حالة شبيهة بحال الطفولية فى سوء الفهم والنسيان وان يعلم شيئًا ثم يسرع فى نسيانه فلا يعلمه ان سئل عنه فمؤدى الكلام لينسى ما يعلم وهو يستلزم ان لا يعلم زيادة علم على علمه لانه اذا كان حاله بحيث ينسى ما علم فكيف يزيد علمه واللام فى لكى هى لا م كى دخلت على كى للتأكيد وهى متعلقة بيرد. وقال بعضهم اللام جارة وكى حرف مصدرى كأن وشيئًا مفعول لا يعلم { ان الله عليم } بمقادير اعمالكم.
قال الكاشفى [داناست وجهل بردانايى او طارى نشود]{ قدير }[تواناست وعجز برتوانايى اوراه نيايد] اى قدير على كل شئ يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفانى: قال الشيخ سعدى قدس سره.

اى بسا اسب تيزروكه بماند كه خرلنك جان بمنزل برد
بس كه درخاك تن درستانزرا دفن كردند وزخم خورده نمرد

وفيه تنبيه على ان تفاوت الآجال ليس الا بتقدير قادر حكيم ركب ابنيتهم وعدل امزجتهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوت هذا المبلغ. قالوا اسنان الانسان سبعة اطوار. طور الفضولية الى سبع سنين. ثم الصبى الى اربع عشرة سنة. ثم الشباب الى اثنتين وثلاثين سنة ثم الكهولة. ثم الشيخوخة. ثم الهرم الى منتهى العمر. وفى الارشاد ضبطوا مراتب العمر فى اربع الاولى سن النشو والنماء. والثانية سن الوقوف وهى سن الشباب. والثالثة سن الانحطاط القليل وهى سن الكهولة. والرابعة سن الانحاط الكثير وهى سن الشيخوخة ولا عمر اسوأ حالا من عمر الهرم الذى يشبه الطفل فى نقصان العقل والقوة وعند اخلاله لا يوجد له شفاء ولا يمنعه دواء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "اعوذ بك من البخل والكسل وارذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات" قال بعضهم حكم الهرم انما يظهر فى حق الكافر لان المسلم يزداد عقله لصلاحه فى طول عمره كرامة له وفى الحديث "من قرأ القرآن لم يردّ الى ارذل العمر" وكذا من يتدبره ويعمل به كما فى تفسير العيون. يقول الفقير لا شك ان الجنون والعته ونحوهما من صفات النقصان فالله تعالى لا يبتلى كامل الانسان انبياء واولياء فالمراد بقولهم ان العلماء لا يعرض لهم العته وان بلغوا الى ارذل العمر علماء الآخرة والعلماء بالله لا مطلق العلماء كما لا يخفى اذ قد شاهدنا من علماء زماننا من صار حاله الى حال الطفولية ثم ان ارذل العمر وان كان اشد الازمان واصعبها لكنه اوان المغفرة ورفعه الدرجة وفى الحديث "اذا بلغ المرء ثمانين سنة انبتت حسناته ومحيت سيآته واذا بلغ تسعين سنة غفر الله ذنبه ما تقدم منه وما تأخر وكان اسير الله فى الارض وشفيعا لاهل بيته يوم القيامة" - روى - "ان رجلا قال للنبى عليه الصلاة والسلام اصابنى فقر فقال لعلك مشيت امام شيخ" واول من شاب من ولد آدم ابراهيم عليه السلام فقال يا رب ما هذا قال هذا نورى فقال رب زدنى من نورك ووقارك وكان الرجل فى القرون الاولى لا يحتلم حتى يأتى عليه ثمانون سنة. وعن وهب ان اصغر من مات من ولد آدم ابن مائتى سنة. قال بعض المشايخ هذه الامة وان كانت اعمارهم قصار قليلة لكن امدادهم كثيرة وهم ينالون فى زمن قصير ما ناله الاقدمون فى مدة طويلة من المرتبة وهذا فضل من الله تعالى.
قال حكيم ان خير نصفى عمر الرجل آخره يذهب جهله ويثوب حلمه ويجتمع رأيه وشر نصفى عمر المرأة آخره يسوء خلقها ويحد لسانها ويعقم رحمها وفى الحديث
"خير شبابكم من تشبه بكهولكم وشر كهولكم من تشبه بشبابكم" . يقول الفقير هذا يشمل التشبه بانواعه فى الاقوال والاحوال والافعال والقيام والقعود واللباس ونحوها فالصوفى شيخ فى المعنى لان مراده الفناء عن الاوصاف كلها فينبغى له ان يلبس لباس الكهول وان كان شابا وفى الحديث "من اتى عليه اربعون سنة لم يغلب خيره شره فليتجهز الى النار"
قال يحيى بن معاذرحمه الله مقدار عمرك فى جنب عيش الآخرة كنفس واحد فاذا ضيعت نفسك فخسرت الابد انك لمن الخاسرين. وفى الاية اشارة الى الفناء والبقاء فالمتوفى هو الفانى عن اثبات وجوده والمردود هو الباقى بوجود موجود وجوده وقوله { لكيلا لا يعلم بعد علم شيئًا } اى ليكون عاقبة امره ان لا يعلم بعد فناء علمه شيئًا بعلمه بل يعلم بربه الاشياء كما هى كما فى التأويلات النجمية.