التفاسير

< >
عرض

وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٠
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ واقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } عطف على فاعفوا كأنه امرهم بالصبر والمخالفة واللجأ الى الله تعالى بالعبادة والبر فالمراد الامر بملازمة طاعة الله تعالى من الفرائض والواجبات والتطوعات بقرينة قوله { وما تقدموا لأنفسكم من خير } فان الخير يتناول اعمال البر كلها الا انه تعالى خص من بينها اقام الصلاة وايتاء الزكاة بالذكر تنبيها على عظم شأنهما وعلو قدرهما عند الله تعالى فان الصلاة قربة بدنية ليكون عمل كل عضو شكرا لما انعم الله عليه فى ذلك والزكاة قربة مالية ليكون شكرا للاغنياء الذين فضلهم الله فى الدنيا بالاستمتاع بلذيذ العيش بسبب سعتهم فى صنوف الاعمال وما تقدموا شرطية اى أى شئ من الخيرات صلاة او صدقة او غيرهما تقدموه وتسلفوه لمصلحة انفسكم { تجدوه } اى ثوابه وجزاءه لا عينه لان عين تلك الاعمال لا تبقى ولان وجدان عينها لا يرغب فيه { عند الله } اى محفوظا عنده فى الآخرة فتجدوا الثمرة واللقمة فيها مثل احد ولفظ التقديم اشارة الى ان المقصود الاصلى والحكمة الكلية فى جميع ما انعم الله تعالى به على المكلفين فى الدنيا ان يقدموه الى معادهم ويدخروه ليومهم الآجل كما جاء فى الحديث "ان العبد اذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم" { إن الله بما تعملون بصير } اى عالم لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الاعمال والعمل غير مقيد بالخير او الشر فهو عام شامل للترغيب والترهيب فالترغيب من حيث انه يدل على انه تعالى يجازى على القليل من الخير كما يجازى على الكثير والترهيب من حيث انه يجازى على القليل والكثير من الشر ايضا فلا يضيع عنده عمل عامل.
وعن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه انه مر ببقيع الغرقد فقال السلام عليكم اهل القبور اخبار ما عندنا ان نساءكم قد تزوجن ودوركم قد سكنت واموالكم قد قسمت فأجابه هاتف يا ابن الخطاب اخبار ما عندنا ان ما قدمناه وجدناه وما انفقناه فقد ربحناه وما خلفناه فقد خسرناه ولقد احسن القائل

قدم لنفسك قبل موتك صالحا واعمل فليس الى الخلود سبيل

قال السعدى

توغافل درانديشه سود ومال كه سرمايه عمر شد بايمال
غبار هوا جشم عقلت بدوخت سموم هوا كشت عمرت بسوخت
بكن سرمه غفلت از جشم باك كه فرداشوى سرمه درجشم خاك

اعلم ان الانسان اذا مات انقطع عمله الا ان يبقى بعده واحد من الاعمال الاربعة التى لا ينقطع اجرها.
الاول ما يتولد من مال الانسان كبناء المساجد والجسور والرباط والاوقاف وغير ذلك من الخيرات: كما قال السعدى فى البستان

ازان كس كه خيرى بماندروان دمادم رسد رحمتش برروان
نمرد آنكه ماند بس ازوى بجاى بل ومسجد وخان ومهمان سراى
هران كونماند از بسش ياد كار درخت وجودش نياورد بار
وكر رفت وآثار خيرش نماند تشايد بس مرك الحمد خواند

والى هذا اشار عليه السلام بقوله "من صدقة جارية" .
فى حديث "اذا مات الانسان انقطع عمله الا من ثلاث" .
والثانى ما يتولد من العقل الراجح كالعلم المنتفع به واليه الاشارة بقوله عليه السلام "او علم ينتفع به" .
قيل هو الاحكام المستنبطة من النصوص والظاهر انه عام متناول ما خلفه من تصنيف او تعليم فى العلوم الشرعية وما يحتاج اليه فى تعلمها قيد العلم بالمنتفع به لان ما لا ينتفع به لا يثمر اجرا كما ان كتم ما ينتفع به لا يثمر اجرا بل اثما وعذابا كما ورد فى الحديث "من كتم علما يعلمه الجم يوم القيامة بلجام من النار" .
قال الامام السخاوى يشمل هذا الوعيد حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها.
والثالث ما يتولد من النفس كالبنين والبنات واليه الاشارة بقوله عليه السلام
"او ولد صالح يدعو له" .
قيد عليه الصلاة والسلام بالصالح لان الاجر لا يحصل من غيره.
واما الوزر فلا يلحق بالاب من سيئة ولده اذا كانت نيته فى تحصيله الخير وانما ذكر الدعاء له تحريضا للولد على الدعاء لابيه لا لانه قيد لان الاجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملا صالحا سواء دعا لابيه ام لا كمن غرس شجرة يحصل له من اكل ثمرتها ثواب سواء دعا له من اكلها أم لم يدع وكذلك الام.
فان قلت ما التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام
"من سن فى الاسلام سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة" وقوله عليه السلام "من مات يختم على عمله الا المرابط فى سبيل الله فانه ينمو له عمله الى يوم القيامة" .
قلنا السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به ومعنى حديث المرابط ان ثواب عمله الذى قدمه فى حياته ينمو له الى يوم القيامة.
اما الثلاث المذكورة فى الحديث فانها اعمال تحدث بعد وفاته لا تنقطع عنه لانه سبب لها فيلحقه منها ثواب.
والرابع ما يتولد من الروح وهى الاولاد المعنوية التى تولدت من التربية كاولاد المشايخ الكاملين من الصوفية المتشرعين المحققين وهذا القسم يمكن ان يندرج فيما قبله فافهم.