التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٢٤٣
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } جمع دار اى منازلهم وهذا الخطاب وان كان بحسب الظاهر متوجها الى النبى عليه السلام الا انه من حيث المعنى متوجه الى جميع من سمع بقصتهم من اهل الكتاب وارباب التواريخ فمقتضى الظاهر ان يقال ألم تسمع قصتهم الا انه نزل سماعهم اياها منزلة رؤيتهم تنبيها على ظهورها واشتهارها عندهم فخوطبوا بألم تر وهو تعجيب من حال هؤلاء وتقرير اى حمل على الاقرار بما دخله النفى.
قال الامام الواحدى ومعنى الرؤية ههنا رؤية القلب وهى بمعنى العلم انتهى فتعدية الرؤية بالى مع انها ادراك قلبى لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك اليهم.
قال العلماء كل ما وقع فى القرآن ألم تر ولم يعاينه النبى عليه السلام فهو بهذا المعنى.
وفى التيسير وتحقيقه اعلم ذلك.
وفى الكواشى معناه الوجوب لان همزة الاستفهام اذا دخلت على النفى او على الاستفهام صار تقريرا او ايجابا والمعنى قد علمت خبر الذين خرجوا الآية.
قال ابن التمجيد فى حواشيه لفظ ألم تر قد يخاطب به من تقدم علمه بالقصة وقد يخاطب به من لم يتقدم علمه بها فانه قد يقول الرجل للآخر ألم تر الى فلان أى شىء قال يريد تعريفه ابتداء فالمخاطبون به ههنا اما من سمعها وعلمها قبل الخطاب به من اهل التواريخ فذكرهم وعجبهم واما من لم يسمعها فعرفهم وعجبهم وقيل الخطاب عام لكل من يتأتى منه الرؤية دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث ينبغى لكل احد ان يعلمها او يبصرها ويتعجب منها { وهم الوف } جمع الف الذى هو من جملة اسماء العدد واختلفوا فى عدد مبلغهم والوجه من حيث اللفظ ان يكون عددهم ازيد من عشرة آلاف لان الالوف جمع الكثرة فلا يقال فى عشرة آلاف فما دونها الوف { حذر الموت } مفعول له اى خرجوا من ديارهم خوفا من الموت { فقال لهم الله } على لسان ملك وانما اسند اليه تعالى تخويفا وتهويلا لان قول القادر القهار والملك الجبار له شأن { موتوا } التقدير فماتوا لاقتضاء قوله ثم احياهم ذلك التقدير لان الاحياء يستدعى سبق الموت { ثم احياهم } اى اعادهم احياء ليستوفوا بقية اعمارهم وليعلموا ان لا فرار من القدر.
قال ابن العربى عقوبة لهم ثم احياهم وميتة العقوبة بعدها حياة للاعتبار وميتة الاجل لا حياة بعدها.
وعن الحسن ايضا أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم الى بقية أجالهم.
وقصة هؤلاء ما ذكره اكثر اهل التفسير انهم كانوا قوما من بنى اسرائيل بقرية من قرى واسط يقال لها داوودان وقع بها الطاعون فذهب اشرافهم واغنياؤهم واقام سفلتهم وفقراءهم فهلك اكثر من بقى فى القرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا اصحابنا كانوا احزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن الى ارض لا وباء بها فوقع الطاعون من العام القابل فهرب عامة اهلها فخرجوا حتى نزلوا واديا افيح بين جبلين فلما نزلوا المكان الذى يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من اسفل الوادى وملك آخر من اعلاه ان موتوا فماتوا جميعا من غير علة بامر الله ومشيئته وماتت دوابهم كموت رجل واحد فاتت عليهم ثمانية ايام حتى انتفخوا واروحت اجسادهم اى انتنت فخرج اليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فاحدقوا حولهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها فاتت على ذلك مدة وقد بليت اجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبى يقال له حزقيل بن يوزى ثالث خلفاء بنى اسرآئيل بعد موسى عليه السلام وذلك ان القيم بعد موسى بامر بنى اسرائيل كان يوشع بن نون ثم كالب بن يوحنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لان امه كانت عجوزا فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله لها.
وقال الحسن هو ذو الكفل وسمى حزقيل ذا الكفل لانه كفل سبعين نبيا وانجاهم من القتل وقال لهم اذهبوا فانى ان قتلت كان خيرا لكم من ان تقتلوا جميعا فلما جاء اليهود وسألوا ذا الكفل عن الانبياء السبعين قال انهم ذهبوا ولا ادرى اين هم ومنع الله تعالى ذا الكفل من اليهود بفضله وكرمه فلما مر حزقيل على اولئك الموتى وقف عليهم لكثرة ما يرى فجعل يتفكر فيهم متعجبا فاوحى الله اليه أتريد ان اريك آية قال نعم فقال الله ناد ايتها العظام ان الله يأمرك ان تجتمعى فاجتمعت من اعلى الوادى وادناه حتى التزق بعضها ببعض فصارت اجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم اوحى الله اليه ناد ايتها الارواح ان الله يأمرك ان تقومى فقاموا وبعثوا احياء يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا انت فبقيت فيهم بقايا من ريح النتن حتى انه بقى فى اولاد ذلك السبط من اليهود الى اليوم ثم انهم رجعوا الى بلادهم وقومهم وعاشوا دهرا سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التى ثبتت لهم وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض لاسباب الشهادة وحثهم على التوكل والاستسلام وان الموت حيث لم يكن منه بد ولم ينفع منه المفر فاولى ان يكون فى سبيل الله { إن الله لذو فضل } عظيم { على الناس } قاطبة اما اولئك فقد احياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى واما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم الى مسلك الاعتبار والاستبصار { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } فضله كما ينبغى لعجز بعضهم وكفر بعضهم.