التفاسير

< >
عرض

وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ والذين يؤمنون } نزلت فى مؤمنى اهل الكتاب وما قبله الى قوله تعالى { ومما رزقناهم ينفقون } نزلت فى مؤمنى العرب { بما انزل اليك } هو القرآن باسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن انزاله بالماضى مع كون بعضه مترقبا حينئذ لتغليب المحقق على المقدر او لتنزيل ما فى شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما فى قوله تعالى { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } [ الأَحقاف: 30] مع ان الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا ولا كان الجمع اذ ذاك نازلا.
وفى الكواشى لان القرآن شئ واحد فى الحكم ولان المؤمن ببعضه مؤمن بكله انتهى ثم معنى ما انزل اليك هو القرآن الذى يتلى والوحى الذى لا يتلى فالمتلو هو هذه الصور والآيات وغير المتلو ما بين النبى عليه السلام من اعداد الركعات ونصب الزكوات وحدود الجنايات قال تعالى
{ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى } [ النجم: 3-4] ولانزال فى هذا الآية بمعنى الوحى ويكون بمعنى الاعلاء وهو النقل من الاسفل الى الاعلى وان حمل الانزال الذى هو من العلو الى السفل فمعناه انزال جبريل لتبليغه كما قال تعالى { نزل به الروح الأمين } [الشعراء: 193] يعنى ان الانزال نقل الشئ من اعلى الى اسفل وهو انما يلحق المعانى بتوسط لحقوقه الذوات الحاملة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الآلهية الى الرسل عليهم السلام والله اعلم بان يتلقاها الملك من جنابه عز وجل تلقيا روحانيا او يحفظها من اللوح المحفوظ فينزل بها الى الرسل فيلقيها عليهم { وما انزل من قبلك } التوراة والانجيل وسائر الكتب السالفة والايمان بالكل جملة فرض عين وبالقرآن تفصيلا من حيث انا متعبدون بتفاصيله فرض كفاية فان فى وجوبه على الكل عينا حرجا بينا واخلالا بامر المعاش.
قال فى التيسير الايمان بكل الكتب مع تنافى احكامها على وجهين احدهما التصديق ان كلها من عند الله والثانى الايمان بما لم ينسخ من احكامها { وبالاخرة } تأنيث الآخر الذي يقابل الاول وهو فى المعدودات اسم للفرد اللاحق وهى صفة الدار بدليل قوله تعالى
{ تلك الدار الآخرة } [القصص: 83] وهى من الصفات الغالبة وكذا الدنيا والآخرة بفتح الخاء الذى يلى الاول وسميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا { هم يوقنون } الايقان اتقان العلم بالشئ بنفى الشك والشبه عنه نظرا واستدلالا ولذلك لا يسمى علمه تعالى يقينا وكذا العلوم الضرورية اى يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان اهل الكتاب عليه من الشكوك والاوهام التى من جملتها زعمهم ان الجنة لا يدخلها الا من كان هودا او نصارى وان النار لم تمسهم الا اياما معدودات واختلافهم فى ان نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا اولا وهل هو دائم اولا فقال فرقة منهم يجرى حالهم فى التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها فى الدنيا وقال آخرون ان ذلك انما احتيج اليه فى هذه الدار من اجل نماء الاجسام ولمكان التوالد والتناسل واهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون الا بالنسيم والارواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور وبناء يوقنون على الضمير تعريض بمن عداهم من اهل الكتاب وبما كانوا عليه من اثبات امر الآخرة على خلاف حقيقته فان اعتقادهم فى امور الآخرة بمعزل من الصحة فضلا عن الوصول الى مرتبة اليقين فدل التقديم على التخصيص بان ايقان من آمن بما انزل اليك وما انزل من قبلك مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز الى ما اثبته الكفار بالاقرار من اهل الكتاب * قال ابو الليثرحمه الله فى تفسيره اليقين على ثلاثة اوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة فاما يقين العيان فهو انه اذا رأى شيأ زال الشك عنه فى ذلك الشئ واما يقين الدلالة فهو ان يرى الرجل دخانا ارتفع من موضع يعلم باليقين ان هناك نارا وان لم يرها واما يقين الخبر فهو ان الرجل يعلم باليقين ان فى الدنيا مدينة يقال لها بغداد وان لم ينته اليها فههنا يقين خبر ويقين دلالة لان الآخرة حق ولان الخبر يصير معاينة عند الرؤية انتهى كلامه.
ويقال علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الاخلاص فيها وحق اليقين المشاهدة فيها والعلم اليقين هو العلم الحاصل بالادراك الباطنى بالفكر الصائب والاستدلال وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا تزيد هذه المرتبة العلمية الا بمناسبة الارواح القدسية فاذا يكون العلم عينا ولا مرتبة للعين الا اليقين الحاصل من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة الا بزوال حجاب الاثنينية فاذا يكون العين حقا وزيادة هذه المرتبه اى حق اليقين عدم ورود الحجاب بعده وعينه للاولياء وحقه للانبياء وهذه الدرجات والمراتب لا تحصل الا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الا كل والذكر او السكوت بالفكر فى ملكوت السموات والارض وباداء السنن والفرائض وترك ما سوى الحق والغرض وتقليل المنام والعرض واكل الحلال وصدق المقال والمراقبة بقلبه الى الله تعالى فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة كذا فى شرح النصوص المسمى باسرار السرور بالوصول الى عين النور. ثم ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها فقد قيل عشرة من المغرورين من ايقن ان الله خالقه ولا يعبده ومن ايقن ان الله رازقه ولا يطمئن به ومن ايقن ان الدنيا زائلة ويعتمد عليها ومن ايقن ان الورثة اعداؤه ويجمع لهم

توباخود ببرتوشة خويشتن كه شفقت نيايد زفرزندوزن

ومن ايقن ان الموت آت فلا يستعد له ومن ايقن ان القبر منزله فلا يعمره ومن ايقن ان الديان يحاسبه فلا يصحح حجته ومن ايقن ان الصراط ممره فلا يخفف ثقله ومن ايقن ان النار دار الفجار فلا يهرب منها ومن ايقن ان الجنة دار الابرار فلا يعمل لها كما فى التيسير. قال ذو النون المصرى اليقين داع الى قصر الامل وقصر الامل يدعو الى الزهد والزهد يورث الحكمة والحكمة تورث النظر فى العواقب.
قال ابو على الدقاقرحمه الله فى قول النبى عليه السلام فى عيسى ابن مريم عليهما السلام
"لو لم يزدد يقينا ما مشى فى الهواء" .
اشار بهذا الحديث الى حال نفسه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لان فى لطائف المعراج انه قال رأيت البراق قد بقى ومشيت * وقال ابو تراب رأيت غلاما فى البادية يمشى بلا زاد فقلت ان لم يكن معه يقين فقد هلك فقلت يا غلام أيمشى فى مثل هذا الموضع بلا زاد فقال يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غير الله تعالى فقلت الآن فاذهب حيث شئت.
قال ابراهيم الخواص طلب المعاش لاكل الحلال فاصطدمت السمك فيوما وقع فى الشبكة سمك فاخرجتها وطرحت الشبكة فى الماء فوقعت اخرى فيها ثم عدت فهتف بى هاتف لم تجد معاشا الا ان تأتى الى من يذكر الله فتقتلهم فكسرت القصبة وتركت كذا فى الرسالة القشيرية وذكر فى التأويلات النجمية ان من تخلص من ذل الحجاب الوجودى يجد عزة الايقان بالامور الاخروية وكان مؤمنا بها من وراء الحجاب فصار موقنا بها بعد رفع الحجاب كما قال امير المؤمنين على كرم الله وجه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا لان من كشف عنه غطاء الوجود لا يحجبه غطاء المحسوسات الدنيوية عن الامور الاخروية فبكشف الحجب يتخلصون من مرتبة الايمان الى مرتبة الايقان كما قال تعالى { وبالآخرة هم يوقنون } ولكن هذا خاص اى يوقنون بالآخرة دون ما انزل على الانبياء من الكتب فانهم لا يتخلصون من مرتبة الايمان بالله وكتبه ابدا وهذا سر عظيم وما رأيت احدا فرق بين هاتين المرتبتين وذلك لانه لا يمكن للانسان ان يشاهد الامور الاخروية كلها بطريق الكشف فى الدنيا واما بطريق المشاهدة فى العقبى فيصير موقنا بها بعد ما كان مؤمنا كما قال تعالى
{ فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22].
فاما ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته فلا مكن لاحد ان يشاهده بالكلية لانه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدة وان فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا من مرتبة الايمان بما لم يشاهدوا بعد ولا يحيطون به علما الى ابدا لآباد بل ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء.