التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ و } اذكروا يا بنى اسرائيل { اذ فرقنا } فصلنا { بكم } اى بسبب انجائكم فالباء للسببية وهو اولى لان الكلام مسوق لتعداد النعم والامتنان وفى السببية دلالة على تعظيمهم وهو ايضا من النعم وقيل الباء بمعنى اللام كقوله تعالى { { ذلك بأن الله هو الحق } [الحج: 62].
اى لان الله { البحر } وهو بحر القلزم بحر من بحار فارس او بحر من ورائهم يقال له اساف حتى حصل اثنا عشر مسلكا بعدد اسباط بنى اسرائيل والسبط ولد الولد والاسباط من بنى اسرائيل كالقبائل من العرب وهم اولاد يعقوب { فأنجيناكم } اى من الغرق باخراجكم الى الساحل { واغرقنا } الغرق الرسوب فى الشىء المائع ورسب الشىء فى الماء رسوبا اى سفل فيه والاغراق الاهلاك فى الماء { آل فرعون } يريد فرعون وقومه للعلم بدخوله فيهم وكونه اولى به منهم { وانتم تنظرون } بابصاركم انفراق البحر حين سلكتم فيه وانطباقه على آل فرعون بعد سلامتكم منه وايضا تنظرون اليهم غرقى موتى حين رماهم البحر الى الساحل.
قال القرطبى ان الله تعالى لما انجاهم واغرق فرعون قالوا يا موسى ان قلوبنا لا تطمئن ان فرعون قد غرق حتى امر الله البحر فلفظه فنظروا اليه.
روى انه لما دنا هلاك فرعون امر الله موسى عليه السلام ان يسرى ببنى اسرائيل من مصر ليلا فامرهم ان يخرجوا وان يستعيروا الحلى من القبط وامر ان لا ينادى احد منهم صاحبه وان يسرجوا في بيوتهم الى الصبح ومن خرج لطخ بابه بكف من دم ليعلم انه قد خرج فخرجوا ليلا وهم ستمائة الف وعشرون الف مقاتل لا يعدون فيهم ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره والقبط لا يعلمون ووقع فى القبط موت فجعلوا يدفنونهم وشغلوا عن طلبهم فلما ارادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا اين يذهبون فدعا موسى مشيخة بنى اسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا ان يوسف لما حضره الموت اخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد عليهم الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلمه احد غير عجوز قالت لو دللت على قبره أتعطينى كل ما سألتك فابى عليها وقال حتى اسأل ربى فامره الله بايتاء سؤلها فقالت انى عجوز كبيرة لا استطيع المشى فاحملنى واخرجنى من مصر هذا فى الدنيا واما فى الآخرة فاسألك ان لا تنزل في غرفة الا نزلتها معك قال نعم قالت انه في جوف الماء فى النيل فادع الله ان يحسر عنه الماء فدعا الله ان يؤخر طلوع الفجر الى ان يفرغ من امر يوسف فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه فى صندوق من صنوبر قالوا ان موسى استخرج تابوت يوسف من قعر النيل بالوفق وهو أول علم أوجده الله بنفسه وعلّمه آدم عليه السلام فتوارثه الأنبياء آخرا عن أ ول ثم انه حمله حتى دفنه بالشام ففتح لهم الطريق فساروا فكان هارون امام بنى اسرائيل وموسى على ساقتهم فلما علم بذلك فرعون جمع قومه فخرج فى طلب بنى اسرائيل وعلى مقدمته هامان فى الف الف وسبعمائة الف جواد ذكر ليس فيها رمكة على رأس كل واحد منهم بيضة وفى يده حربة فسارت بنوا اسرائيل حتى وصلوا الى البحر والماء فى غاية الزيادة فادركهم فرعون حين اشرقت الشمس فقال فرعون فى اصحاب موسى ان هؤلاء لشرذمة قليلون فلما نظر اصحاب موسى اليهم بقوا متحيرين فقالوا لموسى انا لمدركون يا موسى اوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا اليوم نهلك فان البحر امامنا ان دخلناه غرقنا وفرعون خلفنا ان ادركنا قتلنا يا موسى كيف نصنع واين ما وعدتنا قال موسى كلا ان معى ربى سيهدين فاوحى الله الى موسى ان اضرب بعضاك البحر فضربه فلم يطعه فاوحى الله اليه ان كنه فضربه وقال انفلق يا ابا خالد فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقا كل طريق كالجبل العظيم فكان لكل سبط طريق يأخذون فيه وارسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبسا فخاضت بنوا اسرائيل البحر وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضا فقالوا ما لنا لا نرى اخواننا وقال كل سبط قد قتل اخواننا قال سيروا فانهم على طريق مثل طريقكم قالوا لا نرضى حتى نراهم فقال موسى اللهم اعنى على اخلاقهم السيئة فاوحى الله اليه ان قل بعصاك هكذا وهكذا يمنة ويسرة فصار فيها كوى ينظر بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض فساروا حتى خرجوا من البحر فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر فرآه منفلقا قال لقومه انظروا الى البحر انفلق من هيبتى حتى ادرك عبيدى الذين ابقوا فهاب قومه ان يدخلوه وقيل له ان كنت ربا فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان ادهم اى ذكر اسود من الخيل ولم يكن فى قوم فرعون فرس انثى فجاء جبريل على انثى وديق وهى التى تشتهى الفحل وتقدمه الى البحر فشم ادهم فرعون ريحها فاقتحم خلفها البحر اى هجم على البحر بالدخول وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من امره شيأ وهو لا يرى فرس جبريل وتبعته الخيول وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يعجلهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم حتى خاضوا كلهم البحر ودخل آخر قوم قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى وهم اولهم بالخروج فامر الله البحر ان يأخذهم فانطبق على فرعون وقومه فاغرقوا فنادى فرعون لا اله الا الذي آمنت به بنوا اسرائيل وانا من المسلمين القصة وقالت بنوا اسرائيل الآن يدركنا فيقتلنا فلفظ البحر ستمائة وعشرين الفا عليهم الحديد فذلك قوله تعالى
{ { فاليوم ننجيك ببدنك } [يونس: 92] فلفظ فرعون وهو كانه ثور أحمر فلم يقبل البحر بعد ذلك غريقا الا لفظه على وجه الماء.
واعلم ان هذه الوقعة كما انها لموسى عليه الصلاة والسلام معجزة عظيمة لاوائل بنى اسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقتصاصها على ما هى عليه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الابية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لاعقابهم ان يتلقوها بالاذعان لانه عليه السلام اخبرهم بذلك مع انه كان اميا لم يقرأ كتابا وهذا غيب لم يكن له علم عند العرب فاخباره به دل على انه اوحى اليه ذلك وذلك علامة لنبوته فما تأثرت اوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها حيث اتخذوا العجل الها بعد الانجاء ثم صار امرهم الى ان قتلوا انبياءهم ورسلهم فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم فى دينهم وسوء اخلاقهم ولا تذكرت اواخرهم بتذكيرها وروايتها حيث بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بايديهم واشتروا به عرضا وكفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الى غير ذلك فيا لها من عصابة ما اعصاها وطائفة ما اطغاها * وفى الآية تهديد للكافرين ليؤمنوا وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا وينتهوا عن المعاصى فى جميع الاوقات خصوصا فى الزمان الذى انجى الله فيه موسى مع بنى اسرائيل من الغرق وهو اليوم العاشر من المحرم.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما
"ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم ما هذا اليوم الذي تصومونه فقالوا هذا يوم عظيم انجى الله فيه موسى وقومه واغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنخن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن احق واولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وامر بصيامه" رواه مسلم وهذا يدل بظاهره على ان النبى عليه السلام انما صام عاشوراء وامر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما اخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضى الله عنها قالت كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصومه فى الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه ـ يحكى ـ انه هرب اسير من الكفار يوم عاشوراء فركبوا فى طلبه فلما رأى الفرسان خلفه وعلم انه مأخوذ رفع رأسه الى السماء وقاله اللهم بحق هذا اليوم المبارك اسألك ان تنجينى منهم فنام فا عمى الله أبصارهم جميعاً فنجا الأسير فصام ذلك اليوم فلم يجد ما يفطر عليه ويتعشى به فاطعم وسقى فى المنام فعاش بعد ذلك عشرين سنة لم يكن له حاجة الى الطعام والشراب قال النبى عليه السلام "التمسوا فضله فانه يوم مبارك اختاره الله من الايام من صام ذلك اليوم جعل الله له نصيبا من عبادة جميع من عبده من الملائكة والانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين" .
هذا فى الصوم * واما الصلاة الواردة فى يوم عاشوراء فقد ذكرها الشيخ عبد القادر قدس سره عن ابن عباس رضى الله عنهما فى حديث طويل فيه "ومن صلى اربع ركعات فى يوم عاشوراء يقرأ فى كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسين مرة قل هو الله احد غفر الله له ذنوب خمسين عاما مستقبلا وبنى له فى الملأ الأعلى الف منبر من نور" .
ويستحب احياء ليلة عاشوراء ففى الحديث "من احيى ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله بعبادة ملائكته المقربين" .
والاشارة ان البحر هو الدنيا وماؤه شهواتها ولذاتها وموسى هو القلب وقومه صفات القلب وفرعون هو النفس الامارة وقومه صفات النفس وهم اعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم وهم سائرون الى الله تعالى والعدو من خلفهم وبحر الدنيا امامهم ولا بدلهم فى السير الى الله من العبور على البحر ولا يخوضون البحر بلا ضرب عصا لا اله الا الله على البحر بيد موسى القلب فان له يدا بيضاء فى هذا الشأن والا لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا فى يد فرعون النفس لم يكن لها معجزة انفلاق البحر فاذا ضرب يد موسى القلب بعصا الذكر ينفلق بحر الدنيا وماء شهواتها يمينا وشمالا ويرسل الله ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخوض موسى القلب وصفاته فيجاورونه وتنجيهم عناية الله الى الساحل وأن الى ربك المنتهى وقيل لفرعون النفس وقومه اغرقوا فادخلوا نارا كذا لصاحب التأويلات النجمية قدس الله تعالى نفسه الزكية.