التفاسير

< >
عرض

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٥٧
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ وظللنا عليكم الغمام } هذا هو الانعام السابع اى جعلنا الغمام ظلة عليكم يا بنى اسرائيل وهذا جرى فى التيه بين مصر والشام فانهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر وقعوا فى صحراء لا ابنية فيها امرهم الله تعالى بدخول مدينة الجبارين وقتالهم فقبلوا فلما قربوا منها سمعوا بان اهلها جبارون اشداء قامة احدهم سبعمائة ذراع ونحوها فامتنعوا وقالوا لموسى اذهب انت وربك فقاتلان انا ههنا قاعدون فعاقبهم الله بان يتيهوا فى الارض اربعين سنة وكانت المفازة يعنى التيه اثنى عشر فرسخا فاصابهم حر شديد وجوع مفرط فشكوا الى موسى فرحمهم الله فانزل عليهم عمودا من نور يدلى لهم من السماء فيسير معهم بالليل يضيىء لهم مكان القمر اذا لم يكن قمر وارسل غماما ابيض رقيقا اطيب من غمام المطر يظللهم من حر الشمس فى النهار وسمى السحاب غماما لانه يغم السماء اى يسترها والغم حزن يستر القلب ثم سألوا موسى الطعام فدعا ربه فاستجاب له وهو قوله تعالى { وانزلنا عليكم المن } اى الترنجبين بفتح الراء وتسكين النون كان ابيض مثل الثلج كالشهد المعجون بالسمن او المن جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" اى مما من الله على عباده والظاهر ان مجرد مائه شفاء لانه عليه السلام اطلق ولم يذكر الخلط ولما روى عن ابى هريرة انه قال عصرت ثلاثة اكمؤ وجعلت ماءها فى قارورة فكحلت منه جارية لى فبرئت باذن الله تعالى.
وقال النووى رأينا فى زماننا اعمى كحل عينه بمائها مجردا فشفى وعاده اليه بصره ثم لما ملوا من اكله قالوا يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك ان يطعمنا اللحم فانزل الله عليهم السلوى وذلك قوله { والسلوى } هو السمانى كانت تحشره عليهم الريح الجنوب وكانت الريح تقطع حلوقها وتشق بطونها وتمعط شعورها وكانت الشمس تنضجها فكانوا يأكلونها مع المن واكثر المفسرين على انهم يأخذونها فيذبحونها فكان ينزل عليهم المن نزول الثلج من طلوع الفجر الى طلوع الشمس وتأتيهم السلوى فيأخذ كل انسان منهم كفايته الى الغد الا يوم الجمعة يأخذ ليومين لانه لم يكن ينزل يوم السبت لانه كان يوم عبادة فان اخذ اكثر من ذلك دود وفسد { كلوا } اى قلنا لهم كلوا { من طيبات } حلالات { ما رزقناكم } من المن والسلوى ولا ترفعوا منه شيأ ادخارا ولا تعصوا امرى فرفعوا وجعلوا اللحم قديدا مخافة ان ينفد ولو لم يرفعوا لدام عليهم ذلك والطيب ما لا تعافه طبعا ولا تكرهه شرعا { وما ظلمونا } اى فظلموا بان كفروا تلك النعمة الجليلة وادخروا بعدما نهوا عنه وما ظلمونا اى ما بخسوا بحقنا { ولكن كانوا انفسهم يظلمون } باستيجابهم عذابى وقطع مادة الرزق الذى كان ينزل عليهم بلا مؤونة فى الدنيا ولا حساب فى العقبى فرفعنا ذلك عنهم لعدم توكلهم علينا: قال فى المثنوى

سالها خوردى وكم نامد زخور ترك مستقبل كن وماضى نكر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا بنوا اسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا خيانة حواء لم تخن انثى زوجها الدهر" واستمر النتن من ذلك الوقت لان البادئ للشىء كالحامل للغير على الاتيان به وكذلك استمرت الخيانة من النساء لان ام النساء خانت بان أغواها ابليس قبل آدم حتى اكلت من الشجرة ثم أتت آدم فزينت له ذلك حتى حملته على ان اكل منها فاستمرت تلك الخيانة من بناتها لازواجها * قال السعدى

كراخانة آباد وهمخوا به دوست خدارا برحمت نظر سوى اوست

قال فى الاشباه والنظائر الطعام اذا تغير واشتد تغيره تنجس وحرم واللبن والزيت والسمن اذا انتن لا يحرم اكله انتهى.
والاشارة فى الآية انه تعالى لما ادبهم بسوط الغربة ادركهم بالرحمة فى وسط الكربة فاكرمهم بالانعام وظللهم بالغمام ومن عليهم بالمن وسلاهم بالسلوى فلا شعورهم كانت تطول ولا اظفارهم كانت تنبت ولا ثيابهم كانت تخلق او تنسخ وتدرن بل كانت تنمو صغارها حسب نمو الصغار والصبيان ولا شعاع الشمس كان ينبسط وكذلك سنته بمن حال بينه وبين اختياره يكون ما اختاره خيرا له مما يختاره العبد لنفسه فما ازدادوا بشؤم الطبيعة الا الوقوع فى البلوى كما قيل كلوا من طيبات ما رزقناكم بامر الشرع وما ظلمونا اذ تصرفوا فيها بالطبع ولكن كانوا انفسهم يظلمون بالحرص على الدنيا ومتابعة الهوى.
قال فى التنوير وما ادخلك الله فيه تولى اعانتك عليه وما دخلت فيه بنفسك وكلك اليه فلا تكفر نعمة الله عليك فيما تولاك به من ذلك كان بعضهم يسير فى البادية وقد اصابه العطش فانتهى الى بئر فارتفع الماء الى رأس البئر فرفع رأسه الى السماء وقال اعلم انك قادر ولكن لا اطيق هذا فلو قيضت لى بعض الاعراب يصفعنى صفعات ويسقينى شربة ماء كان خيرا لى ثم انى أعلم ان ذلك الرفق من جهته فقد عرفت ان مكر الله خفى فلا تغرنك النعم الظاهرة والباطنة وليكن عزمك على الشكر والاقامة فى حد اقامك الله فيه والا فتضل وتشقى.
وقد قال الشيخ ابو عبد الله القرشى من لم يكن كارها لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصى فهى حجاب فى حقه وسترها عنه رحمة فالنعمة كما انها سبب للسعادة كذلك هى سبب للشقاوة استدراجا: قال فى المثنوى

بنده مى نالد بحق ازدرد ونيش صد شكايت ميكند ازرنج خويش
حق همى كويدكه آخررنج ودرد مرترا لابه كنان وراست كرد
اين كله زان نعمتى كن كت زند ازدرما دور ومطرودت كند

فلا بد للمؤمن السالك من الفناء عن الذات والصفات والافعال والدور مع الامر الالهى فى كل حال حتى يكون من الصديقين واهل اليقين اللهم لا تؤمنا مكرك ولا تنسنا ذكرك واجعلنا من الذين معك فى تقلباتهم وكل معاملاتهم آمين آمين آمين بجاه النبى الامين.