التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٦
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ان الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده وخالصة اوليائه بصفاتهم التى اهلتهم للهدى والفلاح عقبهم اضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يغنى عنهم الآيات والنذر وتعريف الموصول اما للعهد والمراد به ناس باعيانهم كابى لهب وابى جهل والوليد ابن المغيرة واحبار اليهود او للجنس مناولا كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما اسند اليه.
والكفر لغة الستر والتغطية وفى الشريعة انكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول صلى الله عليه وسلم به وانما عد لباس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرها كفرا لدلالته على التكذيب فان من صدق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكاد يجترئ على امثال ذلك اذ لا داعى اليه كالزنى وشرب الخمر لا لانه كفر فى نفسه.
والكافر فى القرآن على اربعة اوجه. احدها نقيض المؤمن قال الله تعالى
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } [محمد: 1] والثانى الجاحد قال تعالى { ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين } [آل عمران: 97].
اى جحد وجوب الحج. والثالث نقيض الشاكر قال تعالى
{ واشكروا لى ولا تكفرون } [البقرة: 152] والرابع المتبرى قال تعالى { ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } اى يتبرأ بعضكم من بعض كذا فى التيسير.
وقال فى البغوى الكفر على اربعة اوجه كفر الانكار وهوان لا يعرف الله اصلا ولا يعترف به وكفر الجحود وهو ان يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر ابليس قال الله تعالى
{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة: 89] وكفر العناد وهو ان يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ولا يدين به ككفر ابى طالب حيث يقول

ولقد علمت بان دين محمد من خير اديان البرية دينا
لولا الملامة او حذرا مسبة لوجدتنى سمحا بذاك مبينا

وكفر النفاق وهو ان يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الانواع سواء فى ان من لقى الله بواحد منها لا يغفر له انتهى كلام البغوى لكن الكلام فى ابى طالب سيجئ عند قوله تعالى { ولا تسئل عن أصحاب الجحيم } [البقرة: 119] { سواء عليهم } [ البقرة: 6] اى عندهم وهو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال الله تعالى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [آل عمران: 64] وارتفاعه على انه خبر لان وقوله تعالى { ءانذرتهم } يا محمد { أم لم تنذرهم } مرتفع على الفاعلية لان الهمزة وما مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الامر والنهى لذلك عن معنييهما فى قوله عز وجل { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [التوبة: 80].
وحرف النداء فى قولك اللهم اغفر لنا ايتها العصابة وعن معنى الطلب لمجرد التخصيص كانه قيل ان الذين كفروا مستو عليهم انذارك وعدمه كقولك ان زيدا مختصم اخوه وابن عمه. واصل الانذار الاعلام بامر مخوف وكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا كما فى تفسير ابى الليث والمراد ههنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصى وانما اقتصر عليه لما انهم ليسوا باهل للبشارة اصلا ولا الانذار اوقع فى القلوب واشد تأثيرا فى النفوس فان دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا اولى. وانما لم يقل سواء عليك كما قال لعبدة الاصنام
{ سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون } [الأعراف: 193].
لان انذارك وترك انذارك ليسا سواء فى حقك لانك تثاب على الانذار وان لم يؤمنوا فاما فى حقهم فهما سواء لانهم لا يؤمنون فى الحالين وهو نظير الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فانه يثاب به الآمر وان لم يعمل به المأمور وكان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود عليه السلام
{ سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } [الشعراء: 136] وقال تعالى فى حق هؤلاء { سواء عليهم } الخ ويقال لهم فى القيامة { اصلوها فاصبروا او لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [الطور: 16].
واخبر عنهم انهم يقولون
{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } [إبراهيم:21] فلما كان الوعظ وتركه سواء كان صبرهم فى النار وتركه سواء وجزعهم فيها وتركه سواء وانت اذا كان عصيانك فى الشباب والشيب سواء وتماديك فى الصحة والمرض سواء واعراضك فى النعمة والمحنة سواء وقسوتك على القريب والبعيد سواء وزيغك فى السر والعلانية سواء اما تخشى ان تكون توبتك عند الموت واصرارك عند النزع وسكوتك سواء وزيارة الصالحين لك وامتناعهم سواء وقيام الشفعاء بامرك وتركهم سواء كذا فى تفسير التيسير { لا يؤمنون } جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من اجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الاعراب ثم هذا تخفيف للنبى عليه السلام وتفريغ لقلبه حيث اخبره عن هؤلاء بما اخبر به نوحا صلوات الله عليه وعلى سائر الانبياء فى الانتهاء فانه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان ومقاساة الشدائد والاحزان { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [هود: 36].
فدعا بهلاكهم بعد ذلك وكذلك سائر الانبياء.
فى الآية الكريمة اخبار بالغيب على ما هو به ان اريد بالموصول اشخاص باعيانهم فهى من المعجزات الباهرة وفى الآية اثبات فعل العباد فانه قال لا يؤمنون فيه اثبات الاختبار ونفى الاكراه والاجبار فانه لم يقل لا يستطيعون بل قال لا يؤمنون. فان قلت لما علم الله انهم لا يؤمنون فلم امر النبى عليه السلام بدعائهم. قلت فائدة الانذار بعد العلم بانه لا ينجع الزام الحجة كما ان الله تعالى بعث موسى الى فرعون ليدعوه الى السلام وعلم انه لا يؤمن قال الله تعالى
{ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165] وقال { ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك } [طه: 134]. فان قلت لما اخبر الله رسوله انهم لا يؤمنون فهلا الهكهم كما اهلك قوم نوح بعدما اخبرانهم لا يؤمنون. قلت لان النبى عليه السلام كان رحمة للعالمين كما ورد به الكتاب وقد قال الله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [الأَنفال: 33] ثم ان الاخبار بوقوع الشئ او عدمه لا ينفى القدرة عليه كاخباره تعالى عما يفعله هو او العبد باختياره فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق.
قال الامام القشيرى من كان فى غطاء صفته محجوبا عن شهود حقه فسيان عنده قول من دله على الحق وقول من اعانه على استجلاب الحظ بل هو الى داعى الغفلة اميل وفى الاصغاء اليه ارغب وكما ان الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته فكذلك المربوط باغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه فهو لا يبصر رشده ولا يسلك قصده. وقال ايضا ان الذى بقى فى ظلمات دعاويه سواء عنده نصح الراشدين وتسويلات المبطلين لان الله تعالى نزع من احواله. بركات الانصاف فلا يصغى الى داعى الرشاد كما قيل

وعلى النصوح نصيحتى وعلى عصيان النصوح

وفى التأويلات النجمية { ان الذين كفروا } اى جحدوا ربوبيتى بعد اقرارهم فى عهد الست بربكم باجابة بلى وستروا صفاء قلوبهم برين ما كسبوا من اعمالهم الطبيعية النفسانية وافسدوا حسن استعدادهم من فطرة الله التى فطر الناس عليها باكتساب الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [المطففين: 14] وذلك بان ارواحهم النفسية لما نظروا بروزنة الحواس الخمس الى عالم الصورة الخسيسة حجبت عن مألوفاتها ومحابها ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها ولهذا يسمى الانسان انسانا لانه انيس فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيس خسيسا فاستحسن ما استحسنت النفس واستلذ به ما استلذ به النفس واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطع عند الاغذية الروحانية ونسى حظائر القدس وجوار الحق فى رياض الانس ولهذا سمى الناس ناسا لانه ناس فتاه فى اودية الخسران واستهوته الشياطين فى الارض حيران ولما نسوا الله بالكفران نسيهم بالخذلان حتى غلب عليهم الهوى واوقعهم فى مهالك الردى فاصبحوا بنفوس احياء وقلوب موتى { سواء عليهم ءانذرتهم } بالوعد والوعيد وخوفتهم بالعذاب الشديد { ام لم تنذرهم لا يؤمنون } بما اخبرتهم ودعوتهم اليه وانذرتهم عليه لان روزنة قلوبهم الى عالم الغيب منسدة بقساوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مقفول عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [محمد: 24].
فما تنسموا روائح الانس من رياض القدس بل هب عليهم صرصر الشقاوة من مهب حكم السابقة وادركهم بالختم على أقفا لها كما قال تعالى
{ ختم الله } [البقرة: 7] الآية انتهى ما فى التأويلات.
ومن امثال الانجيل قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الريح: قال السعدى

جون بو داصل جوهرى قابل تربيت را دراواثر باشد
هيج صيقل نكو نداند كرد آهنى راكه بد كهر باشد