التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ثم توليتم } اى اعرضتم عن الميثاق والوفاء به والدوام عليه { من بعد ذلك } الميثاق المؤكد { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } عطفه بالامهال وتأخير العذاب { لكنتم من الخاسرين } اى من الهالكين ولكن تفضل عليكم حيث رفع الطور فوقكم حتى تبتم فزال الجبل عنكم ولولا ذلك لسقط عليكم والخسران فى الاصل ذهاب رأس المال وهو ههنا هلاك النفس لانها الاصل وقد من الله تعالى على امة محمد صلى الله عليه وسلم حيث فرض عليهم الفرائض واحدة بعد واحدة ولم يفرض عليهم جملة فاذا استقرت الواحدة فى قلوبهم فرض عليهم الاخرى واما بنوا اسرائيل فقد فرض عليهم بدفعة واحدة فشق عليهم ذلك ولذا لم يقبلوا حتى رأوا العذاب ثم ان الله تعالى امر بحفظ الاوامر والعمل وبعدم النسيان والتضييع وقال واذكروا ما فيه وهو المقصود من الكتب الآلهية لان العمدة العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيبها فان ذلك نبذ لها مثاله ان السلطان اذا ارسل منشورا الى واحد من امرائه فى ممالكه وامره فيه ان يبنى له قصرا فى تلك الديار فوصل الكتاب اليه وهو لا يبنى ما امر به لكنه يقرأ المنشور كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد القصر حاضرا فالظاهر انه يستحق العتاب بل العقاب فالقرآن انما هو مثل ذلك المنشور قد امر الله فيه عبيده ان يعمروا اركان الدين من الصوم والصلاة وغيرهما فمجرد قراءة القرآن بغير عمل لا يفيد قال فى المثنوى

هست قرآن حالهاى انبيا ماهيان بحرباك كبريا
وربخوانى ونهء قرآن بذير انبيا واوليارا ديده كير

"روى انه عليه السلام شخص ببصره الى السماء يوما ثم قال هذا اوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شىء فقال زياد بن لبيد الانصارى كيف يختلس منه وقد قرأنا القران فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وابناءنا فقال صلى الله عليه وسلم ثكلتك امك يا زياد هذه التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغنى عنهم" وفى الموطأ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال لانسان انك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه يحفظ فيه حدود القرآن ويضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطى يطولون الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون فيه اعمالهم. قبل اهوائهم وسيأتى على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطى يطولون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه اهواءهم قبل اعمالهم
والاشارة فى الآية ان اخذ الميثاق كان عاما كما كان فى عهد ألست بربكم ولكن قوما اجابوه شوقا وقوما اجابوه خوفا ليتحقق ان الامر بيد الله فى كلتا الحالتين يسمع خطابه من يشاء موجبا للهداية ويسمع من يشاء موجبا للضلالة فانه لا برهان اظهر من رفع الطور فوقهم عيانا فلما اوبقهم الخذلان لم ينفعهم اظهار البرهان وفى قوله
{ { خذوا ما آتيناكم بقوة } [البقرة: 63].ا
شارة الى ان اخذ ما يؤتى الله من الاوامر والنواهى والطاعات والعلوم وغير ذلك لا يمكن للقوة الانسانية الا بقوة ربانية وتأييد الهى
{ { واذكروا ما فيه } [البقرة: 63].
من الرموز والاشارات والدقائق والحقائق
{ { لعلكم تتقون } [البقرة: 63] بالله عما سواه { ثم توليتم من بعد ذلك } اى اعرضتم عن طريق الحق واتباع الشريعة باستيلاء قوة الطبيعة بعد اخذ الميثاق وسلوك طريق الوفاق ابتلاء من الله { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } وهو سبق العناية فى البداية وتوفيق اخذ الميثاق بالقوة فى الوسط وقبول التوبة وتوفيقها والثبات عليها فى النهاية { لكنتم من الخاسرين } المصرين على العصيان المغبونين بالعقوبة والخسران والمبتلين بذهاب الدنيا والعقبى ونكال الآخرة والاولى كما كان حال المصرين منكم والمعتدين.