التفاسير

< >
عرض

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ
٩٥
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ولن يتمنوه } اى الموت { ابدا } اى فى جميع الزمان المستقبل لان ابدا اسم لجميع مستقبل الزمان كقط لماضيه وفيه دليل على ان لن ليس للتأبيد لانهم يتمنون الموت فى الآخرة ولا يتمنونه فى الدنيا { بما قدمت ايديهم } بسبب ما عملوا من المعاصى الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبى عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة وخص الايدى بالذكر لان الاعمال غالبا تكون بها وهى من بين جوارح الانسان مناط عامة صنائعه ومدار اكثر منافعه ولذا عبر بها تارة عن النفس واخرى عن القدرة { والله عليم بالظالمين } بهم وبما صدر عنهم وهو تهديد لهم ـ روى ـ ان اليهود لو تمنوا الموت لغص كل واحد منهم بريقه اى لامتلأ فمه بريقه فمات من ساعته ولما بقى على الارض يهودى الا مات فقوله ولن يتمنوه ابدا من المعجزات لانه اخبار بالغيب وكان كما اخبر به كقوله ولن تفعلوا ولو وقع من احد منهم تمنى موته لنقل واشتهر.
فان قلت ان التمنى يكون بالقلب فلا يظهر لنا انهم تمنوه اولا.
قلت ليس التمنى من اعمال القلوب انما هو قول الانسان بلسانه ليت لى كذا.
وعن نافع جلس الينا يهودى يخاصمنا فقال ان فى كتابكم فتمنوا الموت وانا اتمنى فمالى لا اموت فسمع ابن عمر رضى الله عنهما هذا فدخل بيته واخذ السيف ثم خرج ففر اليهودى حين رآه فقال ابن عمر اما والله لو ادركته لضربت عنقه توهم هذا الجاهل انه لليهود فى كل وقت انما هو لاولئك الذين كانوا يعاندونه ويجحدون نبوته بعد ان عرفوه.
فان قلت ان المؤمنين اجمعوا على انّ الجنة للمؤمنين دون غيرهم ثم ليس احد منهم يتمنى الموت فكيف وجه الاحتجاج على اليهود بذلك.
قلت ان المؤمنين لم يجعلوا لانفسهم من الفضل والشرف والمرتبة عند الله ما جعلت اليهود ذلك لانفسهم لانهم ادعوا انهم ابناء الله واحباؤه وان الجنة خالصة لهم والانسان لا يكره القدوم على حبيبه ولا يخاف انتقامه بالمصير اليه بل يرجو وصوله الى محابه فقيل لهم تمنوا ذلك فلما لم يتمنوه ظهر كذبهم فى دعاويهم ولان النبى عليه الصلاة والسلام نهى عن تمنى الموت قال
"لا يتمنى احدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم احينى ما كانت الحياة خيرا لى وتوفنى ما كانت الوفاة خيرا لى" .
قال مقاتل

لولا بناتى وسيآتي لذبت شوقا الى الممات

فلا يلزمهم ما يلزم اليهود.
قال سهل بن عبد الله التسترى قدس سره لا يتمنى الموت الا ثلاثة رجل جاهل بما بعد الموت او رجل يفر من اقدار الله عليه او مشتاق يحب لقاء الله: قال فى المثنوى

شد هواى مرك طوق صادقان كه جهودانرا بد ان دم امتحان

روى عن صاحب المثنوى انه لما دنت وفاته تمثل له ملك الموت وقام عند الباب ولما رآه المولى قدس سره قال

ييشترآ ييشترآ جان من بيك در حضرت سلطان من

قال بعض الملوك لابى حازم كيف القدوم على الله عز وجل فقال ابو حازم اما قدوم الطائع على الله فكقدوم الغائب على اهله المشتاقين اليه واما قدوم العاصى فكقدوم الآبق على سيده الغضبان: قال فى المثنوى

انبيارا تنك آمد اين جهان جون شهان رفتند اندر لامكان
جون مراسوى اجل عشق وهواست نهى لا تلقوا بايديكم مراست
زانكه نهى ازدانه شيرين بود تلخ را خود نهى حاجت كى شو

واعلم ان الموت هو المصيبة العظمى والبلية الكبرى واعظم منه الغفلة عنه والاعراض عن ذكره وقلة الفكر فيه وترك العمل له وان فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر كما قيل كفى بالموت واعظا ومن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ومنعه عن تمنيها فى المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل ولكن القلوب الغافلة تحتاج الى تطويل الوعاظ وتزيين الالفاظ والا ففى قوله عليه السلام "اكثرو ذكر هاذم اللذات" وقوله تعالى { { كل نفس ذائقة الموت } [آل عمران: 185] ما يكفى السامع له ويشغل الناظر فيه.
فعلى العاقل ان يسعى للموت بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق: قال السعدى قدس سره

اى برادر جوعاقبت خاكست خاك شوبيش ازانكه خاك شوى

اللهم يسر لنا الطريق.