التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ
٥
-طه

روح البيان في تفسير القرآن

{ الرحمن } رفع على المدح اى هو الرحمن او مبتدأ واللام فيه للعهد مشارا به الى من خلق خبره ما بعده { على العرش } الذى يحمله الملائكة متعلقة بقوله { استوى } اعلم ان العرش سرير الملك والاستواء الاستقرار والمرد به ههنا الاستيلاء ومعنى الاستيلاء عليه كناية عن الملك لانه من توابع الملك فذكر اللازم واريد الملزوم يقال استوى فلان على سرير الملك على قصد الاخبار عنه بانه ملك وان لم يقعد على السرير المعهود اصلا فالمراد بيان تعلق ارادته الشريفة بايجاد الكائنات وتدبير امرها اذ البارى مقدس الانتقال والحلول وانما خلق العرش العظيم ليعلم المتعبدون الى اين يتوجهون بقلوبهم بالعبادة والدعاء فى السماء كما خلق الكعبة ليعلموا الى اين يتوجهون بابدانهم فى العبادة فى الارض [وشيخ اكبر قدس سره در فتوحات فرموده كه استواء خداوند بر عرش در قرآنست ومراد بدين ايمانست تأويل نجوييم كه تأويل درين باب طغيانست بظاهر قبول كنيم وبباطن تسليم كه اين اعتقاد سفيانست اماميدانم كه نه محتاج مكانس ونه عرش برد دارنده اوست كه اوست بر دارنده مكان ونكه دارنده عرش]

نى مكان ره يافت سويش نه زمان نى بيان دارد خبرزو نه عيان
اين همه مخلوق حكم داورست خالق عالم زعالم بر ترست

قال بعضهم ليس على الكون من اثر ولا على الاثر من كون.
قال بعضهم انا نقطع بان الله منزه عن المكان والالزم قدم المكان وقد دل الدليل على ان لا قديم سوى الله تعالى وانه تعالى لم يرد من الاستواء الاستقرار والجلوس بل مراده به شئ آخر الا انا لا نشتغل بتعيين ذلك المراد خوفا من الخطأ ونفوض تأويل المتشابهات الى الله تعالى كما هو رأى من يقف على (الا الله) وعليه اكثر السلف كما روى عن مالك واحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة وما كان مقصود الامامين الاجلين بذلك الا المنع من الجدال وقد احسنا حيث حسما بذلك باب الجدال وكذلك فعل الجمهور لان فى فتح الباب الجدال ضررا عظيما على اكثر عباد الله.
وقد روى ان رجلا سأل عمر رضى الله عنه عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة.
وقال بعض كبار المحققين من اهل الله تعالى المراد بهذا الاستواء استواؤه سبحانه لكن لا باعتبار نفسه وذاته تعالى علواً كبيراً عما يقوالظالمون من المجسمة وغيرهم بل باعتبار امره الايجادى وتجليه الحسى الاحدى وانما كان العرش محل هذا الاستواء لان التجليات الذاتية التى هى شروط التجليات المتعينة والاحكام الظاهرة والامور البارزة والشئون المتحققة فى السماء والارض وفيما بينهما من عالم الكون والفساد بالامر الالهى والايجاد الاولى انما تمت باستيفاء لوازمها واستكمال جوانبها واستجماع اركانها الاربعة المستوية فى ظهور العرش بروحة وصورته وحركته الدورية لانه لا بد فى استواء تجليات الحق سبحانه فى هذه العوالم بتجليه الحس وامره الايجاد من الامور الاربعة التى هى من هذه التجليات الحسية والايجادية بمنزلة الشكل المستوى المشتمل على الحد الاصغر والاكبر والاوسط المكرر الكائن به السورة ذات الاركان الاربعة من النتيجة وتلك الامور اربعة هى الحركة المعنوية الاسمائية والحركة النورية الروحانية والحركة الطبيعية المثالية والحركة الصورية الحسية وتلك الحركة الصورية الحسية هى حركة العرش وهى بمنزلة الحد الاكبر ولما استوى امر تمام حصول الاركان الاربعة الموقوف عليها بتوقيف الله تعالى التجليات الايجادية الامرية المتنزلة بين السموات السبع والارضين السبع بحسب مقتضيات استعدادات اهل العصر وموجب قابليات اصحاب الزمان فى كل يوم بل فى كل آن كما اشير اليه بقوله تعالى
{ يتنزل الامر بينهن } وقوله تعالى { كل يوم هو فى شأن } فى العرش كان العرش مستوى الحق سبحانه بالاعتبار المذكور الثانى لا بالاعتبار المزبور الاول وفى الحقيقة بالنظر الى هذا الاعتبار هو مستوى امره الايجادى لا مستوى نفسه وذاته فلا اضطراب ولا خلجان فى الكلام والمقال والحال.
ثم ان استواء الامر الارادى الايجادى على العرش بمنزلة استواء الامر التكليفى الارشادى على الشرع فكما ان كل واحد من الامرين قلب الآخر وعكسه المستوى السوى فكذلك كل واحد من العرش والشرع قلب الآخر وعكسه السوى المستوى.
يقول الفقير قواه الله القدير لا شك ان بين زيد والعالم فرقا من حيث ان الاول يدل على الذات المجردة والثانى على المتصفة بصفة العلم فاسناد الاستواء الى عنوان الاسم الرحمن الذى يراد به صفة الرحمة العامة وان كان مشتملا على الذات دون الاسم الله الذى يراد به الذات وان كان مستجمعا لجميع الصفات ينادى بتنزه ذاته تعالى عن الاستواء وان الذى استوى على العرش المحيط بجميع الاجسام هو الرحمة المحيطة بالكل ومن لم يفرق بين استواء الذات واستواء الصفة فقد اخطأ وذلك ان الله تعالى غنى بذاته عن العالمين جميعا متجل بصفاته واسمائه فى الارواح والاجسام بحيث لا يرى فى مرائى الاكوان الا صور التجليات الاسمائية والصفاتية ولا يلزم من هذا التجلى ان تحل ذاته فى كون من الاكوان اذ هو الآن على ما كان عليه قبل من التوحد والتجرد والتفرد والتقدس ولذا كان اعلى المراتب الوصول الى عالم الحقيقة المطلقة اطلاقا ذاتيا كما اشار اليه قوله تعالى
{ لا يمسه الا المطهرون } وفى الحديث "ان الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الابصار وان الملأ الاعلى يطلبونه كما تطلبونه انتم" ذكره فى الروضة فهذا يدل عل ان الله تعالى ليس فى السماء ولا فى الارض ولو كان لانقطع الطلب واما قوله عليه السلام "يا رب انت فى السماء ونحن فى الارض فما علامة غضبك من رضاك قال اذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضاى عنكم واذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطى عليكم" على ما ذكره الشيخ الاكبر قدس سره الا طهر فى كتاب المسامرة.
"وقوله عليه السلام لجارية معاوية بن الحكم السلمىاين الله فقالت فى السماء فقال من انا فقالت انت رسول الله فقال اعتقها فانها مؤمنة" ونحو ذلك من الاخبار الدالة على ثبوت المكان له تعالى فمصروفة عن ظواهرها محمولة على محل ظهور آثار صفاته العليا ولذا خص السماء بالذكر لانها مهبط الانوار ومحل النوازل والاحكام ومن هذا ظهر ان من قال ان الله فى السماء عالم اراد به المكان كفر وان اراد به الحكاية عما جاء فى ظاهر الاخبار لا يكفر لانها مؤولة والاذهان السليمة والعقول المستقيمة لا تفهم بحسب السليقة من مثل هذه التشبيهات الاعين التنزيه - روى - ان امام الحرمين رفع الله درجته فى الدارين نزل ببعض الاكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء والاكابر فقام واحد من اهل المجلس فقال ما الدليل على تنزيهه تعالى عن المكان وهو قال { الرحمن على العرش استوى } فقال الدليل عليه قول يونس عليه السلام فى بطن الحوت { لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الامام ان ههنا فقيرا مديونا بالف درهم اد عنه دينه حتى ابينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذهب فى المعراج الى ما شاء الله من العلى قال هناك "لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك" ولما ابتلى يونس عليه السلام بالظلمات فى قعر البحر ببطن الحوت قال { لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فكل منها خاطب بقوله انت وهو خطاب الحضور فلو كان هو فى مكان لما صح ذلك فدل ذلك على انه ليس فى مكان. فان قلت فليكن فى كل مكان. قلت قد اشرت الى انه فى كل مكان بآثار صفاته وانوار ذاته لا بذاته كما ان الشمس فى كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها ولو كان فى كل مكان بالمعنى الذى اراد جهلة المتصوفة فيقال فاين كان هو قبل خلق هذه العوالم ألم يكن له وجود متحقق فان قالوا لا فقد كفروا وان قالوا بالحلول والانتقال فكذلك لان الواجب لا يقارن الحادث الا بالتأثير والفيض وظهور كمالاته فيه لكن لا من حيث انه حادثا مطلقا بل من حيث ان وجوده مستفاض منه فافهم.
فان قلت فاذا كان تعالى منزها عن الجهة والمكان فما معنى رفع الايدى الى السماء وقت الدعاء. قلت معناه الاستعطاء من الخزانة لان خزائنه تعالى فى السماء كما قال
{ وفى السماء رزقكم وما توعدون } وقال { وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم } فثبت ان العرش مظهر استواء الصفة الرحمانية وان من يثبت له تعالى مكانا فهو من المجسمة ومنهم جهلة المتصوفة القائلون بانه تعالى فى كل مكان ومن يليهم من العلماء الزائغين عن الحق الخارجين عن طريق العقل والنقل والكشف فمثل مذهبهم وقذره كمثل مذهبهم وقذره فنعوذ بالله تعالى من التلوث بلوث الجهل والزيغ والضلال ونعتصم به عما يعصم من الوهم والخيال والحق حق والاشياء اشياء ولا ينظر الى الحق بعين الاشياء الا من ليس فى وجهه حياء.