التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
-آل عمران

روح البيان في تفسير القرآن

{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } نعت لاولى الالباب اى يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين فان الانسان لا يخلو عن هذه الهيآت غالبا { ويتفكرون فى خلق السموات والارض } يعنى يعتبرون فى خلقهما. وانما خصص التفكر بالخلق لقوله عليه السلام "تفكروا فى الخلق ولا تتفكروا فى الخالق"
. وانما نهى عن التفكر فى الخالق لان معرفة حقيقته المخصوصة غير ممكنة للبشر فلا فائدة لهم فى التفكر فى ذات الخالق. ولما كان الانسان مركبا من النفس والبدن كانت العبودية بحسب النفس وبحسب البدن فاشار الى عبودية البدن بقوله { الذين يذكرون الله } الخ فان ذلك لا يتم الا باستعمال الجوارح والاعضاء واشار الى عبودية القلب والروح بقوله { ويتفكرون فى خلق السموات والارض }.
"وعن عطاء بن ابى رباح قال دخلت مع ابن عمر وعبيد الله بن عمر على عائشة رضى الله عنها فسلمت عليها فقالت من هؤلاء فقلت عبيد الله بن عمر فقالت مرحبا بك يا عبيد الله بن عمر مالك لا تزورنا فقال عبيد الله زر غبا تزدد حبا قال ابن عمر دعونا من هذا حدثينا باعجب ما رأيت من رسول الله عليه السلام فبكت بكاء شديدا فقالت كل امره عجيب اتانى فى ليلتى فدخل فى فراشى حتى الصق جلده بجلدى فقال يا عائشة أتأذنين لى ان اتعبد لربى فقلت والله انى لاحب قربك وهواك قد اذنت لك فقام الى قربة من ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى بلغ الدموع حقويه حتى اتكأ على شقه الايمن ووضع يده اليمنى تحت خده الايمن فبكى حتى ادرّت الدموع وبلغت الارض ثم اتاه بلال بعدما اذن للفجر فلما رآه يبكى قال لم تبكى يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال يا بلال أفلا اكون عبدا شكورا ومالى لا ابكى وقد انزلت على الليلة ان فى خلق السموات والارض الى قوله فقنا عذاب النار ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" وفى الحديث "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"
.وفى التفضيل وجهان. احدهما ان التفكر يوصلك الى الله والعبادة توصلك الى ثواب الله والذى يوصلك الى الله خير مما يوصلك الى غير الله. والثانى ان التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح والقلب اشرف من الجوارح فكان عمل القلب اشرف من عمل الجوارح.
ثم شرع فى تعليم الدعاء تنبيها على ان الدعاء انما يجدى ويستحق الاجابة اذا كان بعد تقديم الوسيلة وهى اقامة وظائف العبودية من الذكر والفكر فقال { ربنا }.
يعنى يتفكرون ويقولون ربنا { ما خلقت هذا }.
اى السموات والارض وتذكير الضمير لما انهما باعتبار تعلق الخلق بهما فى معنى المخلوق { باطلا }.
اى خلقا باطلا عبثا ضائعا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه اوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلة ومصالح عظيمة من جملتها ان يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم الى معرفة احوال المبدأ والمعاد حسبما افصحت عنه الرسل والكتب الآلهية { سبحانك }.
اى ننزهك عما لا يليق بك من الامور التى من جملتها خلق ما لا حكمة فيه { فقنا عذاب النار }.
اى من عذاب النار الذى هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك وفائدة الفاء هى الدلالة على ان علمهم بما لاجله خلقت السموات والارض حملهم على الاستعاذة.
وفيه اشارة الى عظم ذكر الله واشارة الى ثلاث مراتب. اولاها الذكر باللسان وثانيتها التفكر بالقلب. وثالثتها المعرفة بالروح لان ذكر اللسان يوصل صاحبه الى ذكر القلب فهو التفكر فى قدرة الله وذكر القلب يوصل الى مقام الروح فيعرف فى ذلك حقائق الاشياء ويشاهد الحكم الآلهية فى خلق الله فيقول بعد المشاهدة { ربنا ما خلقت هذا باطلاً }.
فينبغى للمؤمن ان يلازم ذكر الله بلسانه فى جميع الاحوال حتى يصل بسبب الذكر باللسان الى ذكر القلب ثم الى ذكر الروح ويحصل له اليقين والمعرفة ويخلص من ظلمة الجهل ويتنور بنور المعرفة
قال بعضهم معنى لا اله الا الله للعوام لا معبود الا الله. ومعناها للخواص لا محبوب ولا مقصود الا الله. ومعناها لأخص الخواص لا موجود الا الله فانه يكون فى تلك الحالة مستهلكا فى بحر الشهود فلا يشعر بشىء سوى الله ولا يرى موجودا.
وفى تفسير الحنفى منقول فى التوحيد اربع مراتب وهو ينقسم الى لب والى لب اللب والى قشر والى قشر القشر. وتمثيل ذلك تقريبا الى الافهام الضعيفة بالجوز فى قشرتيه العليا والسفلى فان له قشرتين وله لب وللب دهن وهو لب اللب. فالمرتبة الاولى من التوحيد ان يقول الانسان باللسان لا اله الا الله وقلبه غافل عنه او منكر له كتوحيد المنافق. والثانية ان يصدق بمعناه قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد. والثالثة ان يشاهد ذلك بواسطة نور آلهى وذلك ان يرى الاشياء صادرة من الواحد القهار. والرابعة انه لا يرى فى الوجود الا وجودا وهو مشاهدة الصديقين وهو الفناء فى التوحيد بمعنى انه فنى عن رؤية نفسه. فالاول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه فى الدنيا من السيف والسنان. والثانى موحد بمعنى انه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال من التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقد على القلب ليس فيه انشراح وانفتاح ولكنها تحفظ صاحبها من العذاب فى الآخرة ان توفى عليها ولم يضعف بالمعاصى عقدتها ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة. والثالث موحد بمعنى انه لم يشاهد الا فاعلا واحدا اذا انكشف له لا فاعل بالحقيقة كما هى عليه لانه كلف قلبه ان يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فان ذلك رتبة العوام والمتكلمين اذ لا فرق بينهما فى الغاية القصوى فى التوحيد. فالاول كالقشرة العليا من الجوز. والثانى كالقشرة السفلى. والثالث كاللب. والرابع كالدهن المستخرج من اللب وكما ان القشرة العليا لا خير فيها بل ان اكل فهو مر المذاق وان نظر الى باطنه فهو كريه المنظر وان اخذ حطبا اطفأ النار واكثر الدخان وان ترك فى البيت ضيق المكان ولا يصلح الا ان يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى فكذلك التوحيد بمجرد اللسان عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة فى حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت والقشرة السفلى هى البدن فيصون من السيف وانما يتجرد عند الموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما ان القشرة السفلى ظاهرة النفع بالاضافة الى القشرة العليا فانه يصون اللب ويحرسه من الفساد عند الادخار واذا فصل امكن ان ينتفع به حطبا لكونه لا قدر له بالنسبة الى اللب فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالاضافة الى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالاضافة الى الكشف والمجاهدة التى تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه واشراق نور الحق فيه اذ ذلك الشرح هو المراد بقوله تعالى
{ { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [الزمر: 22].
وقوله
{ { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } [الأنعام: 125].
وكما ان اللب نفيس بالاضافة الى القشرة لانه المقصود لكن لا يخلو عن شوب بالنسبة الى الدهن كذلك هذا التوحيد لا يخلو عن ملاحظة الغير والالتفات الى الكثرة بالاضافة الى من لم ير سوى الواحد الحق انتهى ما فى الحنفى.
واعلم ان الآية تدل على جواز ذكر الله تعالى قائما ولهذا قال المشايخ ولا بأس ان يقوموا ترويحا لقلوبهم ولا يتحركوا فى ذلك ولا يستظهروا بحال ليس عندهم منه حقيقة.
والحاصل ان التوحيد اذا قرن بالآداب فليس له وضع مخصوص يجوز قائما وقاعدا ومضطجعا ولكن ورد فى الاحاديث ما يدل على استحباب الاخفاء فى ذكر الله وذكر شارح الكشاف ان هذا بحسب المقام والشيخ المرشد يأمر المبدأ برفع الصوت لتنقلع عن قلبه الخواطر الراسخة فيه كذا فى شرح المشارق ويوافقه ما ذكر فى المظهر حيث قال الذكر برفع الصوت جائز بل مستحب اذا لم يكن عن رياء ليغتنم الناس باظهار الدين ووصول بركة الذكر الى السامعين فى الدور والبيوت والحوانيت ويوافق الذاكر من سمع صوته ويشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته وبعض المشايخ اختار الاخفاء لانه ابعد عن الرياء وهذا يتعلق بالنية فمن كانت نيته صادقة فرفع صوته بقراءة القرآن والذكر اولى لما ذكرنا ومن خاف من نفسه الرياء فالاولى له اخفاء الذكر لئلا يقع فى الرياء انتهى قيل اذا كان وحده فان كان من الخواص فالاخفاء فى حقه اولى وان كان من العوام فالجهر فى حقه اولى واذا كانوا مجتمعين على الذكر فالاولى فى حقهم رفع الصوت بالذكر والقوة فانه اكثر تأثيرا فى رفع الحجب ومن حيث الثواب فلكل واحد ثواب ذكر نفسه وسماع ذكر رفقائه قال الله تعالى
{ { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة او أشد قسوة } [البقرة: 74].
شبه القلوب بالحجارة ومعلوم ان الحجر لا ينكسر الا بقوة فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد اشد من قوة ذكر شخص واحد كذا فى ذخرة العابدين: قال حسين الواعظ الملقب بالكاشفى

كفت وكوى عاشقان دركار رب جوشس عشقست نه ترك ادب
هركه كرد ازجام حق يك جرعه نوش نه ادب ماند درو نه عقل و هوش

والمقصود ان السالك اذا سلب اختياره عند التوحيد بغلبة الوجد فلا دخل لشىء من اوضاعه وحركاته فانه اذا ليس فى يده فلا يرد ما قيل

كار نادان كوته انديشست ياد كردن كسى كه دبيشست

فان الجهر وحركات الموحد بالنسبة الى مقامه وحاله ممدوحة جدا واما المتصلفون المتكلفون فحركاتهم وافعالهم من عند انفسهم وقد نهى المشايخ فى كتبهم عن امثال هؤلاء وافعالهم واقوالهم.
فعلى العاقل ان يراعى الآداب والاطوار ولا ينفك لحظة عن ذكر الملك الغفار.