التفاسير

< >
عرض

فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٩٤
قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٩٥
-آل عمران

روح البيان في تفسير القرآن

{ فمن افترى على الله الكذب } اى اختلق عليه سبحانه بزعمه انه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بنى اسرائيل ومن تقدمهم من الامم { من بعد ذلك } اى من بعد ما ذكر من امرهم باحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والالزام { فاولئك } المصرون على الافتراء بعد ان ظهرت حقيقة الحال وضاقت عليهم حيلة المحاجة والجدال { هم الظالمون } المفرطون فى الظلم والعدوان المبعدون فيهما { قل صدق الله } اى ظهر وثبت صدقه تعالى فيما انزل فى شان التحريم { فاتبعوا ملة ابراهيم } اى ملة الاسلام التى هى فى الاصل ملة ابراهيم عليه السلام فانكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون { حنيفا } حال من ابراهيم اى مائلا عن الاديان الزائغة كلها { وما كان من المشركين } اى فى امر من امور دينهم اصلا وفرعا وفيه تعريض باشراك اليهود وتصريح بانه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعا والغرض بيان ان النبى عليه السلام على دين ابراهيم فى الاصول لانه لا يدعو الا الى التوحيد والبراءة من كل معبود سواه سبحانه وتعالى.
قال نجم الدين فى التأويلات الاشارة فى تحقيق الآيات ان الله تعالى خلق الخلق على ثلاثة اصناف. صنف منها الملك الروحانى العلوى اللطيف النورانى وجعل غذاءهم من جنسهم الذكر وخلقهم للعبادة. وصنف منها الحيوان الجسمانى السفلى الكثيف الظلمانى وجعل غداءهم من جنسهم الطعام وخلقهم للعبرة والخدمة. وصنف منها الانسان المركب من الملكى الروحانى والحيوانى الجسمانى وجعل غذاءهم من جنسهم لروحانيهم الذكر ولجسمانيهم الطعام وخلقهم للعبادة والمعرفة. فمنهم ظالم لنفسه وهو الذى غلبت حيوانيته على روحانيته فبالغ فى غذاء جسمانيته وقصر فى غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت حيوانيته اولئك كالانعام بل هم اضل

مرودربى هرجه دل خواهدت كه تمكين تن نورجان كاهدت
زدوران بسى نامرادى برى اكرهر جه باشد مرادت خورى
كند مردرا نفس اماره خوار اكرهو شمندى عزيزش مدار
دريغ آدمى زاده بر محل كه باشد جوانعام بل هم اضل

ومنهم مقتصد وهو الذى تساوت روحانيته وحيوانيته فغذى كل واحدة منهما غذاءها خلطوا عملا صالحا وآخر شيئاً عسى الله ان يتوب عليهم. ومنهم سابق بالخيرات وهو الذى غلبت روحانيته على حيوانيته فبالغ فى غذاء روحانيته وهو الذكر وقصر فى غذاء حيوانيته وهو الطعام حتى ماتت نفسه واستوت قوى روحه اولئك هم خير البرية فكان كل الطعام حلالا لهم كما كان حلالا للحيوان الا ما حرم الانسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح { { من قبل } [آل عمران: 93].
ان ينزل عليه الوحى والالهام كما قيل المجاهدات تورث المشاهدات{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } بان يهتدى الى الحق من غير جهاد النفس { فاولئك هم الظالمون } الذين يضعون الشىء فى غير موضعه وقد قال تعالى
{ { وجاهدوا فى الله حق جهاده } [الحج: 78].
{ قل صدق الله } فيما قال لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون { فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا } وكان ملته انفاق المال على الضيفان وبذل الروح عند الامتحان وتسليم القربان وهذه ملة الخلة { وما كان من المشركين } الذين يتخذون مع الله خليلا آخر ويجعلون الشركة فى الخلة

اكر جز بحق ميرود جاده ات در آتش فشانند سجاده اث

فالاولياء هم الذين يحبون الله ومن يحبه الله فان محبة اهل الحق محبة الله وليس فيها شرك
قال الفضيل ابن عياض قدس سره يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم اما زهدك فى الدنيا فانما طلبت الراحة لنفسك فى الآخرة واما انقطاعك الىّ فانما طلبت العز لنفسك ولكن هل عاديت لى عدوا او واليت لى وليا فى الله فعلامة اتباع ملة ابراهيم هو الاطاعة للحق والتبرى من كل دين سوى الاسلام ومحبة الاولياء وعداوة الاعداء ولو كان المرء آتيا بجميع الطاعات وليس فى قلبه خلوص المحبة فانما يضرب حديدا باردا والله تعالى لا يحب القلب المشترك بمحبة غيره من شهوة او غيرها.
قال محمد ابن حسانرحمه الله بينما انا ادور فى جبل لبنان اذ خرج على شاب قد احرقته السموم والرياح فلما رآنى ولى هاربا فتبعته وقلت عظنى بكلمة انتفع بها قال احذره تعالى فانه غيور لا يحب ان يرى فى قلب عبد سواه.
فعلى العاقل ان يجتهد فى سلوك هذا الطريق الى ان يصل الى منزل التحقيق ومن الله التوفيق فى كل امر خفى وجلى ودقيق.