التفاسير

< >
عرض

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
-المائدة

روح البيان في تفسير القرآن

{ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } اى ما احل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالا مفعول كلوا ومما رزقكم الله حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة.
قال عبد الله بن المبارك الحلال ما اخذته من وجهه والطيب ما غذى ونمى فاما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذى فمكروه الا على وجه التداوى { واتقوا الله الذى انتم به مؤمنون } تأكيد للوصية بما امر به فان قوله { كلوا حلالا } وان كان المراد به ههنا الاباحة والتحليل الا انه انما اباح اكل الحلال فيفيد تحريم ضده فأكد التحريم المستفاد منه بقوله { واتقوا الله } وزاده تأكيدا بقوله { الذى أنتم به مؤمنون } فان الايمان يوجب التقوى بالانتهاء عما نهى عنه وعدم التجاوز عما حد له.
قال الامام قوله تعالى { كلوا مما رزقكم الله } يدل على انه تعالى قد تكفل برزق كل احد فانه لو لم يتكفل برزقه لما قال { كلوا مما رزقكم الله } واذا تكفل برزقه وجب ان لا يبالغ فى الطلب وان يعول على وعده واحسانه فانه اكرم من ان يخلف الوعد ولذلك قال عليه السلام
"فاتقوا الله واجملوا فى الطلب" : قال الحافظ

ماابروى فقر وقناعت نمى بريم بابادشه بكوى كه روزى مقدرست

: وقال الصائب

رزق اكر بر آدمى عاشق نمى باشدجرا اززمين كندم كريباز جاك مى آيدجرا

قال اهل التفسير "ذكر النبى عليه السلام يوما النار ووصف القيامة وبالغ فى الانذار فرق له الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة فى بيت عثمان بن مظعون الجمحى وتشاوروا واتفقوا على ان يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا فى الارض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته ام حكيم بنت امية واسمها خولة وكانت عطارة احق ما بلغنى عن زوجك واصحابه فكرهت ان تكذب على رسول الله وكرهت ان تبدى خبر زوجها فقالت يا رسول الله ان كان قد اخبرك عثمان فقد صدق فرجع رسول الله فلما جاء عثمان اخبرته زوجته بذلك فمضى الى رسول الله فسأله النبى عليه السلام عن ذلك فقال نعم فقال عليه السلام أما انى لم آمر بذلك ان لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا وقوموا وناموا فانى اقوم وانام واصوم وافطر وآكل اللحم والدسم وآتى النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى ثم جمع الناس وخطبهم وقال ما بال قوم حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا اما انى لا آمركم ان تكونوا قسيسين ولا رهبانا فانه ليس من دينى ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وان سياحة امتى الصوم ورهبانيتهم الاجتهاد فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فانما هلك من هلك قبلكم بالتشديد شددوا على انفسهم فشدد الله عليهم فاولئك بقاياهم فى الديارات والصوامع"
.فانزل الله هذه الآية ـ "وروى ـ ان عثمان بن مظعون جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى بان اختصى فائذن لى فى الاختصاء قال مهلا يا عثمان فان اختصاء امتى الصيام" .
وفى المثنوى

هين مكن خودرا خصى رهبان مشو زانكه عفت هست شهوت راكروا
بى هوا نهى از هوا ممكن نبود غازىء بر مردكان نتوان نمود
بس كلو از بهر دام شهوتست بعد ازان لاتسرفوا آن عفتست
جونكه رنج صبر نبود مرترا شرط نبود بس فرو نايد جرا
حبذا آن شرط وشادا آن جزا آن جزاى دلنواز جان فزا

"قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى بان اترهب فى رؤوس الجبال قال مهلا يا عثمان فان ترهب امتى الجلوس فى المساجد لانتظار الصلاة قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى ان اخرج من مالى كله قال مهلا يا عثمان فان صدقتكم يوما بيوم وتعف نفسك وعيالك وترحم المساكين واليتيم فتعطيها افضل من ذلك قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى ان اطلق امرأتى خولة قال مهلا يا عثمان فان الهجرة فى امتى من هجر ما حرم الله عليه او هاجر الى فى حياتى او زار قبرى بعد وفاتى او مات وله امرأة او امرأتان او ثلاث او اربع قال يا رسول الله فان نهيتنى ان لا اطلقها فان نفسى تحدثنى ان لا اغشاها قال مهلا يا عثمان فان المسلم اذا غشى امرأته او ما ملكت يمينه فلم يكن له من وقعته تلك ولد كان له وصيف فى الجنة وان كان له من وقعته تلك ولد فمات قبله كان له فرطا وشفيعا يوم القيامة وان مات بعده كان له نورا يوم القيامة قال يا رسول الله ان نفسى تحدثنى ان لا آكل اللحم قال مهلا يا عثمان فانى احب اللحم واكله اذا وجدته ولو سألت ربى ان يطعمنيه فى كل يوم لاطعمنيه قال يا رسول الله فان نفسى تحدثنى ان لا امس الطيب قال مهلا يا عثمان فان جبرائيل عليه السلام امرنى بالطيب غبا وقال يوم الجمعة لا مترك له يا عثمان لا ترغب عن سنتى فمن رغب عن سنتى ثم مات قبل ان يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضى يوم القيامة" .
"وعن ابى موسى الاشعرى قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال ان المؤمن حلو يحب الحلاوة قال ان فى بطن المؤمن زاوية لا يملأها الا الحلو" وجاء رجل الى الحسن فقال له ان لى جارا لا يأكل الفالوذج قال ولم قال لئلا يؤدى شكره قال أفيشرب الماء البارد قال نعم قال ان جارك هذا جاهل ان نعمة الله عليه فى الماء البارد اكثر من نعمته فى الفالوذج.
وسئل فضيل عن ترك الطيبات من الحوارى واللحم والخبيص للزهد وقال لمن قال لا آكل الخبيص ليتك تأكل وتتقى ان الله لا يكره ان تأكل الحلال الصرف كيف برك لوالديك وصلتك للرحم كيف عطفك على الجار كيف رحمتك للمسلمين كيف كظمك للغيظ كيف عفوك عمن ظلمك كيف احسانك الى من اساء اليك كيف صبرك واحتمالك للاذى انت الى احكام هذا احوج منك الى ترك الخبيص.
والحاصل ان الافراط فى الرهبانية والاحتراز التام عن الذات والطيبات مما يوقع الضعف فى الاعضاء الرئيسة التى هى القلب والدماغ واذا وقع الضعف فيها اختلت الفكرة وباختلالها تفوت عنها الكمالات المتعلقة بالقوة النظرية رأسا وينتقص كمالاتها المتعلقة بالقوة العملية فان تمامها وكمالها يبنى على كمال القوة النظرية.
وايضا الرهبانية التامة توجب خرابية الدنيا وانقطاع الحرث والنسل فلما كانت عمارة الدنيا والآخرة منوطة بترك تلك الرهبانية والمواظبة على المعرفة والمحبة والطاعة اقتضت الحكمة ان لا يحرم الانسان ماطاب ولذ مما احل الله كما نطقت الآية به.
ولكن اشارة الآية ايضا الى الاعتدال كما قال
{ { ولا تعتدوا } [المائدة: 87].
فالاعتدال فى التناول وكذا فى الرياضة ممدوح جدا ولذا ترى المرشد الكامل يأمر فى ابتداء امره بترك اللحم والدسم والجماع وغيرها ولكن على الاعتدال بحسب مزاجه فان للرياضات تأثيرا عظيما فى اصلاح الطبيعة وهو امر مهم فى باب السلوك جدا فلا متمسك لارباب الظاهر فى ترك الرياضة مطلقا وقد اشار النبى عليه الصلاة والسلام فى وصاياه لعثمان بن مظعون الى جملة من الامر فافهم وارشد الى طريق الصواب ولا تفريط ولا افراط فى كل باب.