التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
-الأنعام

روح البيان في تفسير القرآن

{ ألم يروا } لما ذكر تعالى قبائحهم من الاعراض والتكذيب والاستهزاء اتبعه بما يجرى مجرى الموعظة فوعظهم بالقرون الماضية فقال الم يروا وهمزة الانكار لتقرير الرؤية وهى عرفانية مستدعية لمفعول واحد والضمير لاهل مكة اى ألم يعرفوا بمعاينة الآثار وسماع الاخبار { كم } عبارة عن الاشخاص استفهامية كانت او خبرية { اهلكنا من قبلهم } من متعلقة باهلكنا والمراد من قبل خلق اهل مكة او من قبل زمانهم على حذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه { من قرن } مميز لكم عبارة عن اهل عصر من الاعصار سموا بذلك لاقترانهم برهة من الدهر كما فى قوله صلى الله عليه وسلم "خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"
.واراد بالقرن الاول الصحابة وبالثانى التابعين وبالثالث تابع التابعين وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان ثمانين سنة او سبعين او ستين او اربعين او ثلاثين او مائة فالمضاف على هذا محذوف اى من اهل قرن لان نفس الزمان لا يتعلق به الاهلاك { مكناهم فى الارض } استئناف لبيان كيفية الاهلاك وتفصيل مباديه مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل كيف كان ذلك فقيل مكناهم وتمكين الشئ فى الارض جعله قارا فيها ولما لزمه جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه فى الارض واخرى مكن له فى الارض حتى اجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى { ما لم نمكن لكم } بعد قوله تعالى { مكناهم فى الارض } كأنه قيل فى الاول مكنا لهم وفى الثانى ما لم نمكن لكم وما نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف محلها النصب على المصدرية اى مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم ويحتمل ان يكون مفعولا به لمكناهم على المعنى لان معنى مكناهم اعطيناهم اى اعطيناهم ما لم نعطكم { وأرسلنا السماء } اى المطر او السحاب { عليهم } متعلق بارسلنا { مدرارا } مغزارا اى كثير الدرور والصب وهو حال من السماء. قال ابن الشيخ المدرار مفعال وهو من ابنية المبالغة للفاعل كامرأة مذكار ومئناث واصله من درر اللين درورا وهو كثرة وروده على الحالب يقال سحاب مدرارا ومطر مدرار اذا تتابع منه المطر فى اوقات الاحتياج اليه { وجعلنا الانهار } اى صيرناها { تجرى من تحتهم } اى من تحت اشجارهم ومساكنهم وقصورهم والمعنى اعطيناهم من البسط فى الاجسام والامتداد فى الاعمار والسعة من الاموال والاستظهار باسباب الدنيا فى استجلاب المنافع واستدفاع المضار ما لم نعط اهل مكة ففعلوا ما فعلوا من الكفران والعصيان { فاهلكناهم بذنوبهم } اى اهلكت كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب فما اغنى عنهم تلك العدد والاسباب فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب { وأنشأنا من بعدهم } اى احدثنا من بعد اهلاك كل قرن { قرنا آخرين } بدلا من الهالكين وهو لبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه وان ما ذكر من اهلاك الامم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئاً بل كلما اهلك امة انشأ بدلها اخرى يعمر بهم بلاده ومن عادته تعالى اذهاب اهل الظلم بعد الامهال ومجيئه باهل العدل والانصاف ونفى اهل الرياء والسمعة واثبات اهل الصدق والاخلاص ولن يزال الناس من اهل الخير فى كل عصر، وعن ابى الدرداء رضى الله عنه انه قال ان لله عبادا يقال لهم الابدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية ولكن بلغوا بصدق الروع وحسن النية وسلامة الصدر والرحمة بجميع المسلمين اصطفاهم الله بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم اربعون رجلا على مثل قلب ابراهيم عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد ا نشأ من يخلفه واعلم انهم لا يسبون شيئاً ولا يلعنون ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدونه من فوقهم اطيب الناس خبرا والينهم عريكة واسخاهم نفسا لا تدركهم الخيل المجراة ولا الرياح العواصف فيما بينهم وبين ربهم انما قلوبهم تصعد فى السقوف العلى ارتباحا الى الله تعالى فى استباق الخيرات اولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون وهذا بعض كلامه وفى قوله تعالى { فأهلكناهم بذنوبهم } اشارة الى ان الهلاك مطلقا صوريا ومعنويا بدنيا وماليا انما هو بشؤم المعصية وكفران النعمة: ونعم ما قيل

شكر نعمت نعمتت افزون كند كفر نعمت ازكفت بيرون كند

فمن اعرض عن المعجزات والكرامات والالهامات لا قباله على الدنيا وزينتها وشهواتها كأنهم الانعام بل هم اضل لان الانعام ما كذبت بالحق وهو قد كذب

دريغ آدمى زاده برمحل كه باشد جو انعام بل هم اضل

وقوله تعالى { { فسوف يأتيهم } [الأَنعام: 5].
اى فى الدنيا والآخرة
{ { أنباء ما كانوا به يستهزؤن } [الأَنعام: 5]. اما فى الدنيا فمن استهزائهم باقوال الانبياء والاولياء واحوالهم يصمهم الله ويعمى ابصارهم فلا يهتدون الى حق ولا الى حقيقة سبيلا واما فى الآخرة فيعذبهم بعذاب القطيعة والبعد والحرمان والخلود فى النيران ـ حكى ـ ان امام الحرمين كان يدرس يوما فى المسجد بعد صلاة الصبح فمر عليه بعض شيوخ الصوفية ومعه اصحابه من الفقراء وقد دعوا الى بعض المواضع فقال امام الحرمين فى نفسه ما شغل هؤلاء الا الاكل والرقص فلما رجع الشيخ من الدعوة مر عليه وقال يافقيه ما تقول فيمن صلى الصبح وهو جنب ويقعد فى المسجد ويدرس العلوم. ويغتاب الناس فذكر امام الحرمين انه كان عليه غسل ثم حسن اعتقاده بعد ذلك فى الصوفية. اقول واول الامر اعتقادهم ثم الاتباع بطريقتهم ثم الوصول الى مقاماتهم. وقيل لابى القاسم الجنيد قدس سره ممن استفدت هذه العلوم فقال من جلوسى بين يدى الله تعالى ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة واشار الى درجة فى داره فهذه الطريقة لا تنكشف اسرارها ولا تتلألأ انوارها الا بعد اجتهاد تام وسلوك قوى والله الهادى.