التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ
٧٥
-الأنعام

روح البيان في تفسير القرآن

{ وكذلك نرى ابراهيم } ذلك اشارة الى الاراءة التى تضمنها قوله نرى لا الى اراءة اخرى يشبه بها هذه الاراءة كما يقال ضربته كذلك اى هذا الضرب المخصوص والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الاشارة من الفخامة. والمعنى كذلك التبصير نبصره عليه السلام { ملكوت السموات والأرض } اى ربوبيته تعالى وما لكيته لهما وسلطانه القاهر عليهما وكونهما بما فيهما مربوبا ومملوكا له تعالى لا تبصيرا آخر ادنى منه والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهر والاظهر مختص بملك الله عز سلطانه وهذه الاراءة من الرؤية البصرية المستعارة للمعرفة ونظر البصيرة اى عرفناه وبصرناه وصيغة الاستقبال حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها. فان قيل رؤية البصيرة حاصلة لجميع الموحدين كرؤية البصر ومقام الامتنان يأبى ذلك. والجواب انهم وان كانوا يعرفون اصل دليل الربوبية الا ان الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى فى كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب اجناسها وانواعها واشخاصها واحوالها مما لا يحصل الا لاكابر الانبياء ولهذا كان عليه السلام يقول فى دعائه (ارنا الاشياء كما هى).
قال فى التأويلات النجمية. اعلم ان لكل شئ من العالم ظاهرا. يعبر عنه تارة بالجسمانى لما له من الابعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق ولتحيزه وقبول القسمة والتجزى. وتارة بالدنيا لدنوها الى الحسن. وتارة بالصورة لقبول التشكل ولادراكه بالحس. وتارة بالشهادة لشهوده فى الحس. وتارة بالملك لتملكه والتصرف فيه بالحس. وباطنا يعبر عنه تارة بالروحانى لخلوه عن الابعاد الثلاثة وعن التحيز والتجزى فى الحس. وتارة بالآخرة لتأخره عن الحس. وتارة بالمعنى لتعريه عن التشكل وبعده عن الحس. وتارة بالغيب لغيبوبته عن الحس. وتارة بالملكوت لملاك عالم الملك والصورة به فان قيام الملك بالملكوت وقيام الملكوت بقدرة الحق كما قال الله تعالى
{ { فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون } [يس: 84].
اى من طريق الملكوت والملكوت من الاوليات التى خلقها الله تعالى من لا شئ بامركن اذ كان الله ولم يكن معه شئ يدل عليه قوله
{ { أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ } [الأعراف: 185].
فنبه على ان الملكوت لم يخلق من شئ وما سواه خلق من شئ وقد سمى الله تعالى ما خلق بالامر امراً وما خلق من الشئ خلقاً فقال
{ { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف: 54].
فالله تعالى ارى ابراهيم ملكوت الاشياء والآيات المودعة فيها الدالة على التوحيد انتهى وقد اطلق العلماء الملك على ما يدرك بالبصر والملكوت على ما يدرك بالبصيرة فالملكوت لا ينكشف لارباب العقول بل لاصحاب القلوب فان العقل لا يعطى الا الادراك الناقص بخلاف الكشف وتلك المكاشفة لا تحصل الا لاهل المجاهدة فانها ثمرة المجاهدة وهى مما يعز منا له جدا اللهم اجعلنا من اهل العيان دون السامعين للاثر { وليكون من الموقنين } اللام متعلقة بمحذوف مؤخر والجملة اعتراض مقرر لما قبلها اى ليكون من زمرة الراسخين فى الايقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور لا لامر آخر فان الوصول الى تلك الغاية القاصية كمال مترتب على ذلك التبصير لا عينه وليس القصر لبيان انحصار فائدته فى ذلك كيف لا وارشاد الخلق والزام المشركين من فوائده بل لبيان انه الاصل الاصيل والباقى من مستتبعاته.