التفاسير

< >
عرض

وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٨١
-الأعراف

روح البيان في تفسير القرآن

{ وممن خلقنا } اعلم ان الله تعالى كما جعل من قوم موسى ائمة هادين مهديين كما قال { { ومن قوم موسى امه يهدون بالحق وبه يعدلون } [الأعراف: 159].
جعل من هذه الامة المرحومة ايضا كذلك فقال وممن خلقنا ومحل الظرف الرفع على انه مبتدأ اما باعتبار مضمونة او تقدير الموصوف وما بعده خبره اى وبعض من خلقنا او وبعض ممن خلقنا { امة } اى طائفة كثيرة { يهدون } الناس ملتبسين { بالحق } اى محققين او يهدونكم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة { وبه } اى وبالحق { يعدلون } اى يحكمون فى الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها
وعنه عليه الصلاة والسلام
"ان من امتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى"
. والمراد لا يخلو الزمان منهم وفى الحديث "لا تقوم الساعة لا يقال فى الارض الله الله" .
قال الشيخ الكبير صدر الدين القنوى قدس سره اكده بالتكرار ولا شك ان لا يذكر الله ذكرا حقيقيا وخصوصا بهذا الاسم الاعظم الجامع المنعوت بجميع الاسماء الا الذى يعرف الحق بالمعرفة التامة واتم الخلق معرفة بالله فى كل عصر خليفة الله وهو كامل ذلك العصر فكأن يقول صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة وفى الارض انسان كامل وهو المشار اليه بانه العمد المعنوى الماسك وان شئت.
قلت الممسك لاجله فاذا انتقل انشقت السماء وكورت الشمس وانكدرت النجوم ونشرت الصحف وسيرت الجبال وزلزلت اللارض وجاءت القيامة انتهى كلامه فى الفكوك.
ورووا عن ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"ان لله فى الارض ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم وله اربعون قلوبهم على قلب موسى وله سبعة قلوبهم على قلب ابراهيم وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل وله واحد قلبه على قلب اسرافيل فاذا مات الواحد ابدل الله مكانه من الثلاثة واذا مات من الثلاثة ابدل الله مكانه من الخمسة واذا مات من الخمسة ابدل الله مكانه من السبعة واذا مات من السبعة ابدل الله مكانه من الاربعين واذا مات من الاربعين ابدل الله مكانه من الثلاثمائة ابدل الله مكانه من العامة يدفع الله بهم البلاء عن هذه الامة"
. والواحد المذكور فى هذا الحديث هو القطب وهو الغوث ومكانه ومكانته من الاولياء كالنقطة من الدائرة التى هى مركزها به يقع صلاح العالم.
ورووا عن ابى الدرداء انه قال
"ان عبادا يقال لهم الابدال لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية ولكن بلغوا بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدور والرحمة لجميع المسلمين اصطفاهم الله بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم اربعون رجلا على مثل قلب ابراهيم لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد انشأ من يخلقه" .
واعلم انهم لا يسبون شيأ ولا يلعنونه ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدون من فوقهم اطيب الناس خبرا والينهم عربكة واسخاهم نفسا لا تدركهم الخيل المجراة ولا الرياح العواصف فيما بينهم وبين ربهم انما قلوبهم تصعد فى السقوف العلى ارتياحا الى الله تعالى فى استباق الخيرات اولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون انتهى كلامه فى روض الرياحين للامام اليافعىرحمه الله تعالى.
واعلم ان اهل الحق انما نالوا ما نالوا بهدايتهم للناس وعدلهم فيما بين الخلق بعد ما كانوا مهدين وعادلين فى انفسهم - وروى - عن عبد الله بن المبارك انه كان يتجر ويقول لولا خمسة ما اتجرت السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية ليصلهم فقدم سنة فقيل له قدولى ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بشىء فاتاه ابن علية فلم يرفع رأسه اليه ثم كتب اليه ابن المبارك

يا جاعل العلم له بازيا يصطاد اموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما كنت دواء للمجانين
اين رواياتك فى سردها لترك ابواب السلاطين
ان قلت اكرهت فذا باطل زلّ حمار العلم فى الطين

فلما وقف اسماعيل بن علية على الابيات ذهب الى الرشيد ولم يزل به الى ان استعفاه من القضاء فاعفاه ونعم ما قيل

ابو حنيفة قضا نكرد وبمرد تو بميرى اكر قضا نكنى

وقيل

اعدل تكن من صروف الدهر ممتنعا فالصرف ممتنع للعدل فى عمر

والعدل من اسماء الله تعالى ومعناه العادل وهو الذى يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله وحظ العبد من العدل لا يخفى واول ما عليه من العدل فى صفات نفسه هو ان يجعل الشهوة والغضب اسيرين تحت اشارة العقل والدين ومهما جعل العقل خادما للشهوة والغضب فقد ظلم نفسه هذا جملة عدله فى نفسه. وتفصيله مراعاة حدود الشرع كله وعدله فى كل عضو ان يستعمله على الوجه الذى اذن الشرع فيه. واما عدله فى اهله وذويه ثم فى رعيته ان كان من اهل الولاية فلا يخفى وربما ظن ان الظلم هو الايذاء والعدل هو ايصال النفع الى الناس وليس كذلك بل لو فتح الملك خزائنه المشتملة على الاسلحة والكتب وفنون الاموال ولكن فرق الاموال على الاغنياء ووهب الاسلحة للعلماء وسلم اليهم القلاع ووهب الكتب للاجناد واهل القتال وسلم اليهم المساجد والمدارس فقد نفع ولكنه قد ظلم وعدل عن العدل اذ وضع كل شئ فى غير موضعه اللائق به ولو آذى المريض بسقى الادوية والحجامة والفصد بالاجبار عليه وآذى الجناة بالعقوبة قتلا وقطعا وضربا كان عادلا لانه وضعها فى موضعها وحظ العبد دينا من هذا الوصف انه لا يعترض على الله تعالى فى تدبيره وحكمه وسائر افعاله وافق مراده او لم يوافق لان كل ذلك عدل وهو كما يبنغى وعلى ما ينبغى ولو لم يفعل ما فعل لحصل منه امر آخر هو اعظم ضررا مما حصل كما ان المريض لو لم يحتجم ابصر ضررا يزيد على ألم الحجامة وبهذا يكون الله تعالى عدلا والايمان يقطع الانكار والاعتراض ظاهرا وباطنا. وتمامه ان لا يسب الدهر ولا ينسب الاشياء الى الفلك ولا يعترض عليه كما جرت به العادة بل يعلم ان كل ذلك اسباب مسخرة وانها رتبت ووجهت الى المسببات احسن ترتيب وتوجيه باقصى وجوه العدل واللطف كذا فى المقصد الاقصى فى شرح معانى اسماء الله الحسنى للامام الغزالى عليه رحمة الملك المتعالى.