التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ
٢٠٥
-الأعراف

روح البيان في تفسير القرآن

{ واذكر } يا محمد { ربك } ويجوز ان يكون المراد جميع الخلق والذكر طرد الغفلة ولذا لا يكون فى الجنة لانها مقام لحضور الدائم { فى نفسك } وهو الذكر بالكلام الخفى فان الاخفاء ادخل فى الاخلاص واقرب من الاجابة وهذا الذكر يعم الاذكار كلها من القراءة والدعاء وغيرها كما قال فى الاسرار المحمدية ليس فضل الذكر منحصرا فى التهليل والتسبيح والتكبير والدعاء بل كل مطيع لله فى عمل فهو ذاكر { تضرعا } مصدر واقع موقع الحال من فاعل اذكر اى متضرعا ومتذللا. والضراعة الخضوع والذل والاسكانة يقال تضرع الى الله اى ابتهل وتذلل والابتهال الاجتهاد فى الدعاء واخلاصه.
قال بعض العارفين بالله الصلاة افضل الحركات والصوم افضل السكنات والتضرع فى هياكل العبادات يحل ما عقدته الافلاك الدائرات

لو لم ترد نيل ما ارجو واطلبه من فضل جودك ما علمتنى الطلبا

{ وخيفة } بكسر الخاء اصلها خوفه قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها اى وحال كونك خائفا.
قال ابن الشيخ وهذا الخوف يتناول خوف التقصير فى الاعمال وخوف الخاتمة وخوف السابقة فان ما يكون فى الخاتمة ليس الا ما سبق به الحكم فى الفاتحة ولذلك قال عليه السلام
"جف القلم بما هو كائن الى يوم القيامة" انتهى.
يقول الفقير هذا بالنسبة الى ام يكون المراد بالخطاب فى الآية هو الامة والا فالانبياء بل وكمل الاولياء آمنون به من خوف الخاتمة والفاتحة نعم لهم خوف لكن من نوع آخر يناسب مقامهم ولما كان اكمل احوال الانسان ان يظهر عزة ربوبية الله وذلة عبودية نفسه امر الله بالذكر ليتم المقصود الاول وقيده بالتضرع والخيفة ليتم المقصود الثانى

اى خنك آنراكه ذلت نفسه واى آنكسى راكه بردى رفسه

{ ودون الجهر من القول } صفة لمحذوف هو الحال اى ومتكلما كلاما هو دون الجهر فانه اقرب الى حسن التفكر فمن ام فى صلاة الجهر ينبغى له ان لا يجهر جهرا شديدا بل يقتصر على قدر ما يسمعه من خلفه.
قال فى الكشف لا يجهر فوق حاجة الناس والا فهو مسيئ. والفرق بين الكراهة والاساءة هو ان الكراهة افحش من الاساءة
"ولما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمر رضى الله عنه يقرأ رافعا صوته فسأله فقال اوقظ الوسنان واطرد الشيطان قال عليه السلام اخفض من صوتك قليلا واتى ابا بكر رضى الله عنه فوجده يقرأ خافضا صوته فسأله فقال قد اسمعت من ناجيت فقال عليه السلام ارفع من صوتك قليلا"
. وقد جمع النووى بين الاحاديث الواردة فى استحباب الجهر بالذكر بالذكر والواردة فى استحباب الاسرار به بان الاخفاء افضل حيث خاف الرياء او تأذى المصلون او النائمون والجهر افضل فى غير ذلك لان العمل فيه اكثر ولان فائدته تتعدى الى السامعين ولانه يوقظ قلب الذاكر ويجمع همه الى الفكر ويصرف سمعه اليه ويطرد النوم ويزيد فى النشاط وبالجملة ان المختار عند الاخيار ان المبالغة والاستقصاء فى رفع الصوت بالتكبير فى الصلاة ونحوه مكروه والحالة الوسطى بين الجهر والاخفاء مع التضرع والتذلل الاستكانة الخالية عن الرياء جائز غير مكروه باتفاق العلماء كذا فى انوار المشارق وقد سبق من شارح الكشاف ان الشيخ المرشد قد يأمر المبتدى برفع الصوت لتنقلع من قلبه الخواطر الراسخة فيه { بالغدو والآصال } متعلق باذكر اى اذكره فى هذين الوقتين وهما البكرات والعشيات فان الغدو جمع غدوة وهى ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. والآصال جميع اصيل وهو الوقت بعد العصر الى المغرب والعشى والعشية من صلاة المغرب الى العتمة وخص هذان الوقتان لان فيهما تتغير احوال العالم تغيرا عجيبا يدل على ان المؤثر فيه هو الاله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة القاهرة فكل من شاهد هذه التغيرات ينبغى له ان يذكر المؤثر فيها بالتضرع والابتهال والخوف من تحويل حاله الى سوء الحال. وقيل الغدو والآصال عبارتان عن الليل والنهار اكتفى عن ذكرهما بذكر كرفيهما والمراد بذكره تعالى فيهما المواظبة عليه بقدر الامكان { ولا تكن من الغافلين } عن ذكر الله تعالى امر اولا بان يذكر ربه على وجه يستحضر فى نفسه معانى الاذكار التى يقولها بلسانه فان المراد بذكر الله فى نفسه يذكره تعالى عارفا بمعانى ما يقول من الاذكار ثم اتبعه بقوله { ولا تكن من الغافلين } للدلالة على ان الانسان ينبغى له ان لا يغفل قلبه عن استحضار جلال الله تعالى وكبريائه وفى الحديث "الا انبئكم بما هو خير لكم وافضل من ان تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر الله"
. اى ما هو خير لكم مما ذكر ذكر الله سبحانه لان ثواب الغزو والشهادة فى سبيل الله حصول الجنة والذاكر جليس الحق تعالى كما قال "انا جليس من ذكرنى"
.والجليس لا بد ان يكون مشهودا فالحق مشهود الذاكر وشهود الحق افضل من حصول الجنة ولذلك كانت الرؤية بعد حصول الجنة وكمال تلك النعمة. والذكر المطلوب من العبدان يذكر الله باللسان ويكون حاضرا بقلبه وروحه وجميع قواه بحيث يكون بالكلية متوجها الى ربه فتنتفى الخواطر وتنقطع احاديث النفس عنه. ثم اذا داوم عليه ينتقل الذكر من لسانه الى قلبه ولا يزال يذكر بذلك حتى يتجلى له الحق من وراء استار غيوبه فينور باطن العبد بحكم { { وأشرقت الأرض بنور ربها } [الزمر: 69].
ويعده الى التجليات الصفاتية والاسمائية ثم الذاتية فينفى العبد فى الحق فيذكر الحق نفسه بما يليق بجلاله وجماله فيكون الحق ذاكرا ومذكورا وذلك بارتفاع الثنوية وانكشاف الحقيقة الاحدية كذا فى شرح الفصوص لداود القيصرى فى الكلمة اليونسية

جون تجلى كرد اوصاف قديم بس بسوزد وصف حادث را كليم

واعلم ان من اشتغل باسم من الاسماء وداوم فيه فلا ريب ان يحصل بينه وبين سر هذا الاسم المشتعل به وروحه بعناية الله تعالى وفضله مناسبة ما بقدر الاشتغال ومتى قويت تلك المناسبة وكملت بحسب قوة الاشتغال وكماله يحصل بينه وبين مدلوله من الاسماء الحقية بواسطة هذه المناسبة الحاصلة مناسبة بقدرها قوة وكمالا ومتى بلغت الى حد الكمال ايضا هذه المناسبة الثانية الحاصلة بينه وبين هذا الاسم بجود الحق سبحانه وعطائه يحصل بينه وبين مسماه الحق تعالى مناسبة بمقدار المناسبة الثانية من جهة القوة والكمال لان العبد بسبب هذه المناسبة يغلب قدسه على دنسه ويصير مناسبا لعالم القدس بقدر ارتفاع حكم الدنس فحينئذ يتجلى الحق سبحانه له من مرتبة ذلك الاسم بحسبها وبقدر استعداده ويفيض عليه ما شاء من العلوم والمعارف والاسرار الالهية والكونية حسبما يقتضيه الوقت ويسعه الموطن وتستدعيه القابلية فيطلع بعد ذلك على ما لم يطلع عليه قبله فيحصل له العلم والمعرفة بعد الجهل والغفلة كذا فى حواشى تفسير الفاتحة لحضرة شيخنا الاجل امدنا الله بمدده الى حلول الاجل واتفق المشايخ والعلماء بالله على من لا ورد له لا وارد له وانقطاعه عن بعض ورده بسبب من الاسباب سوى السفر والمرض والهرم والموت علامة البعد من الله تعالى والخذلان. فينبغى لمن كان له ورد ففاته ذلك ان يتداركه ويأتى به ولو بعد اسبوع ومن هنا تقضى الصوفية التهجد مع انه ليس من الفرائض والسر فى هذا ان المراد من الاوراد بل من سائر العبادات تغيير صفات الباطن وقمع رذائل القلب وآحاد الاعمال يقال آثارها بل لا يحس بآثارها وانما يترتب الاثر على المجموع واذا لم يكن يعقب العمل الواحد اثر محسوسا ولم يردف بثان وثالث على القرب والتوالى انمحى الاثر الاول ايضا ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلم "احب الاعمال الى الله ادومها وان قل" اى العمل.
وقال ابن مالك وانما كان العمل الذى يداوم عليه احب لان النفس تألف به ويدوم بسببه الاقبال على الله تعالى ولهذا ينكر اهل التصوف ترك الاوراد كما ينكرون ترك الفرائض انتهى.
قال بعض العلماء بالله لا يستحقر الورد الا جهول يعنى بحق ربه وحظ نفسه ووجهه وصوله اليهما ان الوارد يوجد فى الدار الآخرة على حسب الورد اذ جاء فى الحديث
"ان الله تعالى يقول ادخلوا الجنة برحمتى وتقاسموها باعمالكم"
. والورد ينطوى بانطواء هذه الدار فيفوت ثوابه بحسب فواته اذ هو مرتب عليه. واولى ما يعتنى به عند العقلاء الاكياس ما لا يخلف وجوده ان تذهب فائدته بذهابه فاذا تعللت نفسك بعدم طلب الثواب فقل لها الورد هو طالب ذكره منك اذ هو حق العبودية وان ركنت الى طلب العوض فقل والوارد انت تطلبينه منه لا من حظ نفسك واين ما هو طالبه منك من واجب حقه مما هو مطلبك منه من غرضك وحظك فطب نفسا بالعمل لمولاك وسلم له فيما به يتولاك فقد قالوا كن طالب الاستقامة ولا تكن طالب الكرامة فان نفسك تهتز وتطلب الكرامة ومولاك يطالبك بالاستقامة ولان تكون بحق ربك اولى لك من ان تكون بحظ نفسك: قال الحافظ

صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور باخيال تو اكر با دكرى بردازم

قال فى التأويلات النجمية { واذكر ربك فى نفسك } اى اذكره بالافعال والاخلاق والذات فى نفسك بان تبدل افعال نفسك بالاعمال التى امر الله بها وتبدل اخلاقها باخلاق الله ونفى ذاتها فى ذات الله وهذا كما قال "وان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى"
. وهو سر قوله { { فاذكرونى أذكركم } [البقرة: 152].
ألا ترى ان الفراش لما ذكر الشمعة فى نفسه بافناء ذاته فى ذاتها كيف ذكرته الشمعة بابقائه ببقائها على ان تلك الحضرة منزهة عن المثل والمثال { تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول } التضرع من باب التكلف اى بداية هذا الذكر بتبديل افعال النفس باعمال الشريعة تكون بالتكلف ظاهرة وسطه بالتخلق باخلاق الله وبآداب الطريقة يكون مخفيا باطنا ونهايته بافناء ذاتها فى ذاته بانوار الحقيقة تكون منهيا عن جهر القول بها وهذا حقيقة قوله عليه السلام
"افشاء سر الربوبية كفر"
. { بالغدو والآصال } يشير الى غدو الازل وآصال الابد فان الذكر الحقيقى والمذكور الحقيقى هو الذاكر الحقيقى والذاكر والمذكور فى الحقيقة هو الله الازلى الابدى لانه تعالى قال فى الازل { { فاذكرونى اذكركم } [البقرة: 152].
ففى الازل ذكرهم لما خاطبهم وكان هو الذاكر والمذكور على الحقيقة على انا نقول ما ذكره الا هو وهذا حقيقة قول يوسف بن حسين الرازى ما ذكر احد الله الا الله ولهذا قال تعالى { ولا تكن من الغافلين } الذين لا يعلمون ان الذاكر والمذكور هو الله فى الحقيقة انتهى ما فى التأويلات النجمية.