التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٥٧
-الأعراف

روح البيان في تفسير القرآن

{ وهو الذى يرسل الرياح } كل ما كان فى القرآن من ذكر الرياح فهو للرحمة وما كان من ذكر الريح فهو للعذاب ويدل عليه انه عليه الصلاة والسلام كان يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح ويقول "اللهم اجعلها لنا رياحا ولا تجعلها ريحا اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك"
. وفى الحديث "لا تسبوا الريح فاذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم انا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما امرت به نعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما امرت به" .
قال بعض المشايخ لا تعتمد على الريح فى استواء السفينة وسيرها وهذا شرك فى توحيد الافعال وجهل بحقائق الامور ومن انكشف له امر العالم كما هو عليه يعلم ان الريح لا تتحرك بنفهسا بل لها محرك والمحرك له محرك الى ان ينتهى الى المحرك الاول الذى لا محرك له ولا يتحرك هو فى نفسه ايضا بل هو منزه عن ذلك وعما يضاهيه سبحانه { بشرا } تخفيف بشر بضمتين جمع بشير نحو رغيف ورغف اى مبشرات { بين يدى رحمته } اى قدام رحمته التى هى المطر فان الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدّره والدبور تفرقه. الصبا ريح تهب من موضع طلوع الشمس عند استواء الليل والنهار. والدبور ريح تقابل الصبا اى تهب من موضع غروب الشمس. والشمال بالفتح الريح التى تهب من ناحية القطب. والجنوب الريح التى تقابل الشمال والجنوب تدر السحاب اى تستحلبه قال ابن عباس رضى الله عنهما يرسل الله الرياح فتحمل السحاب فتمريه كما يمرى الرجل الناقة والشاة حتى تدر وفى الآية اطلاق الرحمة على المطر فقول من قال انى افر من الرحمة محمول على المطر { حتى اذا اقلت } غاية لقوله يرسل { سحابا } اى حملته ورفعته باليسر والسهولة بان وجدته خفيفا قليلا يقال اقللت كذا اى حملته بالسهولة ومن حمل الشئ بسهولة لا شك انه يعده قليلا فلذلك اشتق هذا الفعل من القلة { ثقالا } جمع ثقيل اى بالماء جمعه مع كونه وصفا للسحاب لان السحاب اسم جنس يصح اطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها فيكون بمعنى الجمع اى السحائب والسحاب هو الغيم الجارى فى السماء { سقناه } من السوق والضمير للسحاب والافراد باعتبار اللفظ والمعنى بالفارسية [برانيم ما آن ابررا] { لبلد ميت } اى لا حياء بلد لا نبات فيه والبلد يطلق على كل موضع من الارض سواء كان عامرا اى ذا عمارة او غير عامر خاليا او مسكونا والطائفة منها بلدة والجمع بلاد { فانزلنا به الماء } اى بالبلد والباء للالصاق اى التصق انزال الماء بالبلد { فاخرجنا به } اى سبب ذلك الماء { من كل الثمرات } اى من كل انواعها والظاهر ان الاستغراق عرفى { كذلك نخرج الموتى } الاشارة فيها الى اخراج الثمرات او الى احياء البلد الميت اى كما نحييه باحداث القوة النباتية فيه وتطريته بانواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الاجداس ونحييها برد النفوس الى مواد ابدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس { لعلكم تذكرون } بطرح احدى التاءين اى تتذكرون فتعلمون ان من قدر على هذا من غير شبهة.
قال ابن عباس وابو هريرة اذا مات الناس كلهم فى النفخة الاولى مطرت السماء اربعين يوما قبل النفخة الاخيرة مثل منى الرجال فينبتون من قبورهم بذلك المطر كم ينبتون فى بطون امهاتهم وكما ينبت الزرع من الماء حتى اذا استكملت اجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون فى قبورهم فاذا نفخ فى الصور النفخة الثانية وهى نفخة البعث جاشوا وخرجوا من قبورهم وهم يجدون طعم النوم فى رؤسهم كما يجده النائم اذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادى هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
والاشارة فى الآية ان الرياح رياح العناية والسحاب سحاب الهداية والماء ماء المحبة فيخرج الله تعالى بهذا الماء سمرات المشاهدات والمكاشفات وانواع الكمالات كذلك نخرج الموتى اى موتى القلوب من قبور الصدور لعلكم تذكرون اى تذكرون ايام حياتكم دون حياض الانس ورياض القرب عند حظائر القدس.
واعلم ان العمدة هى العناية الازلية وهى تصل الى العباد فى الخلا والملا ـ حكى ـ انه قيل لولى من اولياء الله تعالى اذهب الى دار الشرك فان فيها صديقا فكان ذلك الولى يقدر على الاختفاء فذهب الى دار المشركين فاسره مشرك وباعه لخادم كنيسة فخدم فيها زمانا بالصدق فجاء السلطان يوما الى الكنيسة فخلاها ثم صلى فاستتر الولى ثم ظهر للسلطان فقال من انت قال مسلم مثلك وقيل للولى هو الصديق ثم سأل الولى ذلك السلطان الصديق عن حاله فقال فى احسن الاحوال وارغد عيش آكل الرزق الحلال واعبدُ خالصا عن الرياء واقتل الكفار واعين المسلمين بحيث لو كنت سلطانهم ما قدرت ثم خرج من الكنيسة وقعد عند بابها فسأل عنى البطارقة والرهبان والخدام ثم قتل الكل وقال تتكبرون عن خدمة بيت الرب بانفسكم وتستخدمون غير اهل الملة ثم خلى سبيلى وفى هذه الحكاية اشارة الى ان الله تعالى اذا اراد اهلك العدو بادنى سبب من حيث لا يحتسب فان له الطافا خفية: قال الحافظ

تيغى آسمانش ازفيض خوددهد آب تنها جهان بكيرد بى منت سباهى

وقال ايضا


دلاطمع مبراز لطف بى نهايت دوست
كه ميرسدهمه را لطف بى نهايت او

فنظر اهل التوحيد وارباب البصيرة الى المؤثر الحقيقى والفيض الازلى لا الى الخلق والوسائط والاسباب نسأل الله تعالى ان يجعلنا من الذين فازوا بالسعادة الابدية والعناية السرمدية ويسلك بنا مسلك الحقيقة والطريقة الاحمدية انه هو البر الرحيم.