التفاسير

< >
عرض

كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
٥
يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ
٦
-الأنفال

روح البيان في تفسير القرآن

{ كما أخرجك ربك } المراد باخراج الله تعالى اياه كونه سببا آمراً له بالخروج وداعيا اليه فان جبرائيل عليه السلام اتاه وامره بالخروج { من بيتك } فى المدينة { بالحق } حال من مفعول اخرجك اى اخرجك ملتبسا بالحق وهو اظهار دين الله وقهر اعداء الله والكاف فى محل الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال وهى قسمة غنائم بدر بين الغزاة على السواء من غير تفرقة بين الشبان المقاتلين وبين الشيوخ الثابتين تحت الرايات كحال اخراجك يعنى ان حالهم فى كراهتهم لما رأيت فان فى طبع المقاتلة شيأ من الكراهة لهذه القسمة مع كونها حقا كحالهم فى كراهتهم لخروجك للحرب وهو حق { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } اى والحال ان فريقا منهم كارهون للخروج اما لنفرة الطبع عن القتال او لعدم الاستعداد.
قال سعدى جلبى المفتى الظاهر ان المراد هي الكراهة الطبيعية التى لا تدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد انها لا تليق بمنصب الصحابة رضى الله عنهم -
"روى- ان عير قريش اى قافلتهم اقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها اربعون راكبا منهم ابو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وكان فى السنة الثانية من الهجرة فاخبر جبريل رسول الله باقبالها فاخبر المسلمين فاعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا سمع ابو سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى فبعثه الى مكة وامره ان يأتى قريشا فيستفزهم ويخبرهم ان محمدا قد اعترض لعيركم فادركوها فلما بلغ اهل مكة هذا الخبر نادى ابو جهل فوق الكعبة يا اهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم واموالكم اى تداركوها ان اصابها محمد لن تفلحوا بعدها ابدا وقدرأت عاتكة اخت العباس بن عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا فقالت لاخيها انى رأيت عجبا كأن ملكا نزل من السماء فاخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها اى رمى بها الى فوق فلم يبق بيت من بيوت مكة الا اصابه حجر من تلك الصخرة فحدث بها العباس صديقا له يقال له عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وذكرها عتبة لابنته ففشا الحديث فقال ابو جهل للعباس يا ابا الفضل ما يرضى رجالكم ان يتنبأوا حتى تنبأت نساؤكم فخرج ابو جهل باهل مكة وهم النفير فقيل له ان العير اخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس الى مكة فقال لا والله لا يكون ذلك ابدا حتى تنحر الجزور وتشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فتتسامع جميع العرب بمخرجنا وان محمدا لم يصب العير وانا قد اغضضناه فمضى بهم الى بدر وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما فى السنة فنزل جبريل فقال يا محمد ان الله وعدكم احدى الطائفتين اما العير واما قريشا فاستشار النيى عليه السلام اصحابه فقال ما تقولون ان القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير احب اليكم ام النفير فقالوا بل العير احب الينا من لقاء العدو فتغير وجه رسول الله عليه وسلم ثم ردد عليهم فقال ان العير قد مضت على ساحل البحر وهذا ابو جهل قد اقبل" .
يريد صلى الله عليه وسلم بذلك ان تلقى النفير وجهاد المشركين آثر عنده وانفع للمؤمنين من الظفر بالعير لما فى تلقى النفير من كسر شوكة المشركين واظهار الدين الحق على الاديان كلها فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فقام عندما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابو بكر وعمر رضى الله عنهما فاحسنا الكلام فى اتباع مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام سيد الخزرج سعد ابن عبادة فقال انظر فى امرك وامض فوالله لو سرت الى عدن ابين ما تخلف عنك رجل من الانصار ثم قال المقداد ابن عمرو يا رسول الله امض لما امرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنوا اسرائيل لموسى عليه السلام إذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون ولكن اذهب انت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف فتبسم رسول الله ثم قال
"اشيروا على ايها الناس" . وهو يريد الانصار اى بينوا لى ما فى ضميركم فى حق نصرتى ومعاونتى فى هذه المعركة وذلك لان الانصار كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ان ينصروه ما دام فى المدينة واذا خرج منها لا يكون عليهم معاونة ونصرة فأراد عليه السلام ان يعاهدهم على النصرة فى تلك المعركة ايضا فقام سعد بن معاذ فكأنك تريدنا يا رسول الله قال "اجل"
. قال قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما اردت فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل وما نكره ان تلقى بنا عدونا انا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال "سيروا على بركة الله وابشروا فان الله وعدنى احدى الطائفتين والله لكأنى الآن انظر الى مصارع القوم"
. فالمعنى اخرجك ربك من بيتك لان تترك التوجه الى العير وتؤثر عليه مقاتلة النفير فى حال كراهة فريق من اصحابك ما آثرته من محاربة النفير { يجادلونك في الحق } الذى هو تلقى النفير لايثارهم عليه تلقى العير { بعد ما تبين } منصوب بيجادلونك وما مصدرية اى يخاصمونك بعد تبين الحق وظهوره لهم باعلامك انهم ينصرون اينما توجهوا ويقولون ما كان خروجنا الا للعير وهلا قلت لنا ان الخروج لمقاتلة النفير لنستعد ونتأهب فمن قال ذلك انما قال كراهة لاخراجه عليه الصلاة والسلام من المدينة وكراهتهم القتال { كأنما يساقون إلى الموت } الكاف فى محل النصب على الحالية من الضمير فى لكارهون اى مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار الى القتل { وهم ينظرون } حال من ضمير يساقون اى والحال انهم ينظرون الى اسباب الموت ويشاهدونها عيانا وما كانت هذه المرتبة من الخوف والجزع الا لقلة عددهم وعدم تأهبهم وكونه رجالة - وروى - انهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ليس فيهم الا فارسان الزبير والمقداد ولهم سبعون بعير او ست ادرع وثمانية اسياف وكان المشركون اكثر عددا وعدداً بالاضعاف.
والاشارة ان الله تعالى اخرج المؤمنين الذين هم المؤمنون حقا من اوطان البشرية الى مقام العندية بجذبات العناية { كما أخرجك ربك من بيتك } اى من وطن وجودك بالحق اى بمجيئ الحق من تجلى صفات جماله وجلاله { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } اى القلب والروح يعنى للفناء عند التجلى فان البقاء محبوب والفناء مكروه وعلى كل ذى وجود يجادلونك اى الروح والقلب فى الحق اى مجيئ الحق من بعد ما تبين مجيئه لكراهة الفناء كأنما يساقون الى الموت وهم ينظرون يعنى كأنهم ينظرون الى الفناء ولا يزول البقاء بعد الفناء كمن يساق الى الموت كذا فى التاويلات النجمية: وفى المثنوى

شير دنيا جويد اشكارى وبرك شيرمولى جويد آزادى ومرك
جونكه اندرمرك بيند صد وجود همجو بروانه بسوزاند وجود
كل شئ هالك جز وجه او جون نه در وجه او هستى مجو
هركه اندر وجه ماباشد فنا كل شئ هالك نبود جزا
زانكه در "الا" ست اواز "لا" كذشت هركه در "الا" ست او فانى نكشت

واعلم انه كما لا اعتراض على الانبياء فى وحيهم وعباراتهم كذلك لا اعتراض على الاولياء فى ألهامهم واشاراتهم وان السعادة فى العمل والاخذ بآياتهم والوجود وان كان محبوبا لاهل الوجود لكن الفناء محبوب لاهل الشهود فعلى السالك ان ينقطع عن جميع اللذات الدنيوية ويطهر نفسه عن لوث الاغراض الدنية ويكون الرسول وامره احب اليه من نفسه الى ان ينفذ عمره. روى البخارى "عن عبد الله بن هشام انه قال كنا مع النبى عليه السلام وهو اخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال عمر رضى الله عنه يا رسول الله انت احب الى من كل شئ الا نفسى فقال صلى الله عليه وسلم لا والذى نفس محمد بيده حتى اكون احب اليك من نفسك اى لا يكون ايمانك كاملا حتى تؤثر رضاى على رضى نفسك وان كان فيه هلاكك فقال عمر الآن والله انت احب الى من نفسى فقال الآن يا عمر"
.يعنى صار ايمانك كاملا.
قال ابن ملك والمراد من هذه المحبة محبة الاختيار لا محبة الطبع لان كل واحد مجبول على حب نفسه اشد من غيرها انتهى. قوله محبة الاختيار رضى النبى عليه السلام على رضى نفسه فالمراد هو الايثار كما قال تعالى
{ { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
فكما ان هذا الايثار لا يقتضى عدم احتياج المؤثر فكذلك ايثار رضى الغير لا يستدعى ان تكون المحبة له اشد من كل وجه هذا ولكن فوق هذا كلام فان من فنى عن طبيعته ونفسه بل عن قالبه وقلبه فقد فنى عن محبتها ايضا وتخلص من الاثنينية ووصل الى مقام المحبوبية الذى لا غاية وراءه رزقنا الله واياكم ذلك بفضله وكرمه