التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
-التوبة

روح البيان في تفسير القرآن

{ براءة من الله ورسوله } اى هذه براءة مبتدأة من جهة الله ورسوله واصلة { الى الذين عاهدتم } ايها المسلمون { من المشركين } فمن لابتداء الغاية والى لانتهاء الغاية متعلقان بمحذوف كما تقول هذا الكتاب من فلان الى فلان اى واصل منه اليه وليست كلمة من صلة براءة كما فى قولك برئت من فلان والبراءة من الله انقطاع العصمة ونقض العهد ولم يذكر ما تعلق به البراءة كما فى ان الله بريئ من المشركين اكتفاء بما فى حيز الصلة واحترازا عن تكرير لفظة من ولما كانت المعاهدة غير واجبة بل مباحة مأذونة وكان الاتفاق للعهد من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب اليهم مع ان مباشرة امرها انما تتصور من المسلمين لا من الله تعالى وان كانت باذن الله تعالى بخلاف البراءة فانها واجبة اوجبها الله تعالى وامر منوط بجناب الله تعالى كسائر الاوامر غير متوقفة على رأى المخاطبين. والمعنى ان الله ورسوله قد برئا من العهد الذى عاهدتم به المشركين فانه منبوذ اليهم والعهد العقد الموثق باليمين وقد كانوا عاهدوا مشركى العرب من اهل مكة وغيرهم باذن الله واتفاق الرسول فنكثوا الابنى ضمرة وبنى كنانة فامر المسلمون بنبذ العهد الى الناكثين وامهلوا اربعة اشهر كما قال تعالى { فسيحوا } اى فقولوا لهم سيحوا وسيروا { فى الارض اربعة اشهر } مقبلين مدبرين آمنين من القتال غير خائفين من النهب والغارة. والسيح والسياحة الذهاب فى الارض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشيئة كسيح الماء على موجب الطبيعة ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس فى سيروا ونظائره وزيادة فى الارض لقصد التعميم لاقطارها من دار الاسلام وغيرها والمراد اباحة ذلك لهم وتخليتهم وشأنهم للحرب او تحصين الاهل والمال او تحصيل الحرب او غير ذلك لا تكليفهم بالسياحة فيها والمراد بالاشهر الاربعة هى الاشهر الحرم التى علق القتال بانسلاخها هى شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لان السورة نزلت فى شوال سنة تسع من الهجرة بعد فتح مكة فانه كان فى السنة الثامنة منها امروا بان لا يتعرضوا للكفار بتلك المدة صيانة للاشهر الحرم عن القتال فيها ثم نسخ وجوبها ليتفكروا ويعلموا ان ليس لهم بعد هذه المدة الا الاسلام او السيف فيصير ذلك حاملا لهم على الاسلام ولئلا ينسبوا المسلمين الى الخيانة ونقض العهد على غفلة المعاهدين وقيل هى عشرون من ذى الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الاول وعشر من شهر ربيع الآخر لان التبليغ كان يوم النحر كما "روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولى سنة الفتح عتاب بن اسيد الوقوف بالناس فى الموسم واجتمع فى تلك السنة فى الوقوف المسلمون والمشركون فلما كانت سنة تسع بعث ابا بكر رضى الله عنه اميرا على الموسم فلما خرج منطلقا نحو مكة اتبعه عليا رضى الله عنه راكب العضباء ليقرأ هذه السورة على اهل الموسم فقيل له عليه السلام لو بعثت بها الى ابى بكر فقال لا يؤدى عنى الارجل منى" وذلك لان عادة العرب ان لا يتولى امر العهد والنقض على القبيلة الارجل منها سيدهم او واحد من رهطه وعترته فبعث عليا ازاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه فينا فى العهد والنقض فلما دنا على سمع ابو بكر الرغاء وهو صوف ذوات الحوافر فوقف وقال هذا رغاء ناقة رسول الله فلما لحقه قال امير ام مأمور قال مأمور فمضينا فلما كان قبل يوم التروية خطب ابو بكر وحدثهم عن مساكنهم وقام على يوم النحر عند جمرة العقبة فقال "يا ايها الناس انى رسول الله اليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين او اربعين آية من اول هذه السورة ثم قال امرت باربع ان لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة الا كل نفس مؤمنة وان يتم الى كل ذى عهد عهده" .
وقال الحدادى كان الحج فى السنة التى قرأ على رضى الله عنه فيها هذه السورة فى العاشر من ذى القعدة ثم صار الحج فى السنة الثانية فى ذى الحجة وكان السبب فى تقديم الحج فى سنة العهد ما كان يفعله بنوا كنانة فى النسئ وهو التأخير انتهى فعلى هذا كان المراد بالاشهر الاربعة من عشر ذى القعدة الى عشر من شهر ربيع الاول كما ذهب اليه البعض { واعلموا انكم } بسياحتكم فى اقطار الارض فى العرض والطول وان ركبتم متن كل صعب وذلول { غير معجزى الله } اى لا تفوتونه بالهرب والتحصين.
قال فى ربيع الابرار غير معجزى الله سابقى الله وكل معجز فى القرآن سابق بلغة كنانة { وان الله } اى واعلموا انه تعالى { مخزى الكافرين } اى مذلكم فى الدنيا بالقتل والاسر وفى الآخرة بالعذاب وما يحصل لكم فى الافتضاح. والاخزاء هو الازلال بما فيه فضيحة وعار.
قال القشيرى قطع لهم مدة على وجه المهلة على انهم اقلعوا عن الضلال وجدوا فى المال ما فقدوا من الوصال وان ابوا الا التمادى فى الحرمة والجريمة انقطع ما بينهم وبينه من العصمة ثم ختم الآية بما معناه ان اصررتم على قبيح آثاركم مشيتم الى هلاككم بقدمكم وسعيتم فى عاجلكم فى اراقة دمكم وحصلتم فى آجلكم على ندمكم فما خسرتم الا فى صفقتكم

تبدلت وتبدلنا واخسرنا من ابتغى عوضا يسعى فلم يجد

ففى الآية دعوة الى الصلح والايمان بعد الحراب والكفران فمن كفر وعصى فقد خاصم ربه فجاء الندم فى تأخيره التوبة والاستغفار وعدم مبالاته بمباغتة قهر الملك الجبار.
قال بعض العرفاء ان شئت ان تصير من الابدال فحول خلقك الى بعض خلق الاطفال ففيهم خمس خصال لو كانت فى الكبار لكانوا ابدالا لا يهتمون للرزق: قال الصائب

فكرآب ودانه دركنج قفس بى حاصلست زير جرخ انديشه روزى جرا باشد مرا

ولا يشكون من خالقهم اذا مرضوا

حافظ ازجور توحاشاك بنالد رورى كه ازان روز كه دربند توام دلشادم

ويأكلون الطعام مجتمعين

اكر خواهى كه يابى ملك ودولت بخور شاها بدرويشان نعمت

واذا تخاصموا تسارعوا الى الصلح: قال السلطان سليم الاول

خواهى كه كنج عشق كنى لوح سينه را ازدل بشوى آينه سان كرد كينه را

واذا خافوا جرت عيونهم بالدموع: وفى المثنوى

سوز مهر وكريه ابر جهان جون همى دارد جهانرا خوش دهان
آفتاب عقل را در سوز دار جشم را جون ابر اشك افروز دار
جشم كريان بايدت جون طفل خرد كم خوراين نانرا كه نان آب توبرد

واشارت الآية الكريمة الى النفوس المتمردة المشركة التى اتخذت الهوى الها وعبدت صنم الدنيا فهادنها الروح والقلب فى اوان الطفولية وعاهداها على ان لا يجاهداها ولا يقاتلاها الى حد البلوغ وهى ايضا لا تتعرض لهما الى استكمال القالب واستواء القوى البشرية التى بها تتحمل حمل الامانة واعباء اركان الشريعة وظهور كمال العقل الذى به يستعد لقبول الدعوة واجابتها وبه يعرف الرسل ومعجزاتهم وبه يثبت الصانع ويرى تعبده واجبا لاداء شكر نعمة الله وان الله ورسوله بريئ من تلك المعاهدة بعد البلوغ فانه اوان نقض عهد النفوس مع القلوب والارواح لان النفس قبل البلوغ كانت تتصرف فى المأكول والمشروب والملبوس لتربية القالب ودفع الحاجة الماسة غالبا وذلك لم يكن مضرا جدا للقلب والروح فاما بعد البلوغ فزادت فى تلك التربية بالمأكول والمشروب والملبوس لتربية القالب ودفع الحاجة الماسة غالبا وذلك لم يكن مضرا جدا للقلب والروح فاما بعد البلوغ فزادت فى تلك التربية بالمأكول والمشروب والملبوس الضرورى لاجل الشهوة ولما ظهرت الشهوة شملت آفتها المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح واشتعلت نيرانها يوما فيوما وفيها مرض القلب والروح وبعثت الانبياء لدفع هذا المرض وعلاجه كما قال عليه السلام "بعثت لدفع العادات وترك الشهوات" وفى قوله { فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر } اشارة الى ان للنفوس فى ارض البشرية سيرا وسياحة لتكميل الاوصاف الاربعة من النباتية والحيوانية والشيطانية والانسانية التى تتولد بازدواج الروح العلوى الروحانى المفرد والقالب السفلى المركب من العناصر الاربعة. فالنباتية تولد الماء. والحيوانية تولد الريح. والشيطانية تولد النار. والانسانية تولد التراب فلتكميل هذه الصفات ارخيت ازمة النفوس فى مراتع الدنيا ونعيمها الى البلاغة ثم قال { واعلموا } يعنى نفوس اهل السعادة { أنكم غير معجزى الله } اى لا تعجوزنه ان ينزعكم عن المراتع الدنيوية ويمتعكم بالمنافع الاخروية { وان الله مخزى الكافرين } يعنى مهلك اهل الشقاوة فى تيه الغفلات والشهوات كذا فى التأويلات النجمية