التفاسير

< >
عرض

قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
-التوبة

روح البيان في تفسير القرآن

{ قاتلوا } [بكشيدى اى مؤمنان وكارزار كنيد] { الذين } [با آنانكه] { لا يؤمنون بالله } كما ينبغى قال اليهود مثنية والنصارى مثلثة فايمانهم بالله كلا ايمان { ولا باليوم الآخر } كما ينبغى فان اليهود ذهبوا الى نفى الاكل والشرب فى الجنة والنصارى الى اثبات المعاد الروحانى فعلمهم باحوال الاخرة كلا علم فكذا ايمانهم المبنى عليه ليس بايمان والمؤمن الكامل هو الذى يصف الله تعالى بما يليق به فيوحده وينزهه ويثبت المعاد الجسمانى والروحانى كليهما والنعيم الصورى والمعنوى ايضا فان لكل من الجسم والروح حظا من النعيم يليق بحاله ويناسب لمقامه { ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله } اى ما ثبت تحريمه بالوحى المتلو وهو الكتاب او غير المتلو وهو السنة وذلك مثل الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر ونظائرها { ولا يدينون دين الحق } يجوز ان يكون مصدر يدينون وان يكون مفعولا به ويدينون بمعنى يعتقدون ويقبلون. والحق صفة مشبهة بمعنى الثابت بمعنى الثابت واضافة الدين اليه من قبيل اضافة الموصوف الى صفته واصل الكلام ولا يدينون الدين الحق وهو دين الاسلام فانه دين ثابت نسخ جميع ما سواه من الاديان.
وعن قتادة ان الحق هو الله تعالى. والمعنى ولا يدينون دين الله الذى هو الاسلام فان الدين عند الله الاسلام { من الذين أوتوا الكتاب } من التوراة والانجيل وهو بيان للذين لا يؤمنون { حتى } للغاية { يعطوا } اى يقبلوا ان يعطوا فان غاية القتال ليست نفس هذا الاعطاء بل قبوله { الجزية } فعله من جزى دينه اذا قضاه سمى ما يعطيه المعاهد مما تقرر عليه بمقتضى عهده جزية لوجوب قضائه عليه او لانها تجزى عن الذمى اى تقضى وتكفى عن القتل فانه اذا قبلها يسقط عنه القتل { عن يد } حال من الضمير فى يعطوا اى عن يدهم بمعنى مسلمين بايديهم غير باعثين بايذى غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه او عن يد مطيعة غير ممتنعة اى منقادين مطيعين فاذا احتيج فى اخذها منهم الى الجبر والاكراه لا يبقى عقد الذمة بل يعود حكم القتل والقتال فالاعطاء عن يد كناية عن الانقياد والطوع يقال اعطى فلان بيده اذا استسلم وانقاد وعلاقة المجاز ان من ابى وامتنع لا يعطى بيده بخلاف المطيع او عن غنى. ولذلك قيل لم تجب الجزية على الفقير العاجز عن الكسب او عن انعام عليه فان ابقاء مهجتهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة عليهم او عن يد قاهرة مستولية عليهم وهى يد الآخذ فعن سببية كما فى قولك يسمنون عن الاكل والشرب اى يبلغون الى غاية السمن وحسن الهيئة بسبب الاكل والشرب { وهم صاغرون } اى اذلاء وذلك بان يأتى بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بتلبيبه اى يجيبه ويجر ويقال له اد الجزية يا ذمى او يا عدو الله وان كانوا يؤدونها.
واعلم ان الكفار ثلاثة انواع.
نوع منهم يقاتلون حتى يسلموا اذ لا يقبل منهم الا الاسلام وهم مشركوا العرب والمرتدون. اما مشركو العرب فلان النبى عليه السلام بعث منهم فظهرت المعجزات لديهم فكفرهم يكون افحش. واما المرتدون فلانهم عدلوا عن دين الحق بعد اطلاعهم على محاسنه فيكون كفرهم اقبح فالعقوبة على قدر الجناية وفى وضع الجزية تخفيف لهم فلم يستحقوه.
ونوع آخر يقاتلون حتى يسلموا او يعطوا الجزية وهم اليهود والنصارى والمجوس. اما اليهود والنصارى فبهذه الآية. واما المجوس فبقوله عليه السلام
"سنوا بهم سنة اهل الكتاب غير ناكحى نسائهم وآكلى ذبائحهم" .
والنوع الثالث منهم الكفرة الذين ليسوا مجوسا ولا اهل كتاب ولا من مشركى العرب كعبدة الاوثان من الترك والهند ذهب ابو حنيفة واصحابه رحمهم الله الى جواز اخذ الجزية منهم لجواز اجتماع الدينين فى غير جزيرة العرب وهم من غير العرب ومقدارها على الفقير المعتمل اثنا عشر درهما فى كل شهر درهم هذا اذا كان فى اكثر الحول صحيحا اما اذا كان فى اكثره او نصفه مريضا فلا جزية عليه وعلى المتوسط الحال اربعة وعشرون درهما فى كل شهر درهمان وعلى الغنى ثمانية واربعون درهما فى كل شهر اربعة دراهم ولا شيء على فقير عاجز عن الكسب ولا على شيخ فان او زمن او مقعد او اعمى او صبى او امرأة او راهب لا يخالط الناس وانما لم توضع عليهم الجزية لان الجزية شرعت زجرا عن الكفر وحملا له على الاسلام فيجرى مجرى القتل فمن لا يعاقب بالقتل وهم هؤلاء لا يؤاخذ بالجزية لان الجزية خلف من القتال وهم ليسوا باهله فاذا حصل الزاجر فى حق المقاتلة وهم الاصل انزجر التبع.
قال الحدادى اما طعن الملحدة كيف يجوز اقدار الكفار على كفرهم باداء الجزية بدلا من الاسلام.
فالجواب انه لا يجوز ان يكون اخذ الجزية منهم رضى بكفرهم وانما الجزية عقوبة لهم على اقامتهم على الكفر واذا جاز امهالهم بغير الجزية للاستدعاء الى الايمان كان امهالهم بالجزية اولى انتهى.
فعلى الولاة والمتسلمين ان لا يتعدوا ما حد الله تعالى فى كتابه فان الظلم لا يجوز مطلقا ويعود وباله على الظالم بل يسرى الى غيره ايضا وفى الحديث "خمس بخمس اذا اكل الربا كان الخسف والزلزلة واذا ظهر الزنى كثر الموت واذا منعت الزكاة هلكت الماشية واذا تعدى على اهل الذمة كانت الدولة لهم" كذا فى الاسرار المحمدية لابن فخر الدين الرومى: وفى المثنوى

جمله دانند اين اكر تونكروى هرجه مى كاريش روزى بدروى

يقول الفقير رأينا من السنة الرابعة والتسعين بعد الالف الى هذا الآن وهى السنة الاولى بعد المائة والالف من استيلاء الكفار على البلاد الرومية وعلى البحر الاسود والابيض ما لم يره احد قبلنا ولا يدرى احد ماذا يكون غدا والامر بيد الله تعالى وذلك بسبب الظلم المفرط على اهل الاسلام واهل الذمة الساكنين فى تلك الديار فعاد الصغار والذل من الكفار الى المسلمين الكاذبين فصاروا هم صاغرين والعياذ بالله تعالى وليس الخبر كالمعاينة نسأل الله تعالى اللحوق بأهل الحق والدخول فى الارض المقدسة.
ثم ان مما حرم الله على اهل الحق الدنيا ومحبتها فان حب الدنيا رأس كل خطيئة والكفار لما قصروا انظارهم على الدنيا واخذوها بدلا من الآخرة وضعت عليهم الجزية وجزية النفس الامارة معاملاتها على خلاف طبعها لتكون صاغرة ذليلة تحت احكام الشرع وآداب الطريقة فلا بد من جهادها وتذليلها ليعود العز والدولة الى طرف الروح: وفى المثنوى

آنجه درفرعون بود اندر توهست ليك ازدرهات محبوس جهست
آتشت را هنيرم فرعون نيست زانكه جون فرعون اوراعون نيست

فهذه حال النفس فلا بد من قهرها الى ان تفنى عن دعواها واسناد العز اليها وعند ذلك تكون فانية مطمئنة مستسلمة لامر الله منقادة مسخرة تحت حكمه