التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٩
ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٨٠
-التوبة

روح البيان في تفسير القرآن

{ الذين } رفع على الذم اى المنافقون هم الذين { يلمزون } قال فى القاموس اللمز العيب والاشارة بالعين ونحوها اى يعيبون ويغتابون { المطوعين } اى المتطوعين المتنفلين { من المؤمنين } حال من المطوعين { فى الصدقات } متعلق بيلمزون - "روى- ان النبى صلى الله عليه وسلم فى تجهيز العسكر فكان اول من جاء بالصدقة ابو بكر الصديق رضى الله عنه جاء بجميع ماله اربعة آلاف درهم فقال له رسول الله هل ابقيت لاهلك شيئاً قال أبقيت لهم الله ورسوله وجاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه بنصف ماله فقال له عليه السلام هل ابقيت لاهلك شيئاً قال النصف الثانى فقال ما بينكما ما بين كلاميكما" .
ومنه يعرف فضل ابى بكر على عمر رضى عنه وانفق عثمان بن عفان رضى الله عنه نفقة عظيمة لم ينفق احد مثلها فانه جهز عشرة آلاف وانفق عليها عشرة آلاف دينار وصب فى حجر النبى عليه السلام الف دينار واعطى ثلاثمائة بعير باحلاسها واقتابها وخمسين فرسا وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم "اللهم ارض عن عثمان فانى عنه راض"
. وفى الحديث "سألت ربى ان لا يدخل النار من صاهرته او صاهرنى" وقد كان عليه السلام زوج بنته رقية من عثمان فماتت بعد ما خرج رسول الله الى بدر فلما رجع من بدر زوجه ام كلثوم ولذا سمى عثمان بذى النورين ولما ماتت ام كلثوم قال عليه السلام "لو كان عندى ثالثة لزوجتكما" وجاء عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه باربعة آلاف درهم فقال عليه السلام "بارك الله لك فيما امسكت وفيما اعطيت" فبارك الله له حتى بلغ ماله حين مات وصولحت احدى نسائه الاربع عن ربع ثمنها على ثمانين الف درهم ونيف فكان ثمن ماله اكثر من ثلاثمائة الف وعشرين الفا وفى رواية جاء باربعين اوقية من ذهب ومن ثمة قيل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كانا خزانتين من خزائن الله فى الارض ينفقان فى طاعة الله تعالى وجاء العباس بمال كثير وكذا طلحة وتصدق عاصم بن عدى بمائة وسق من تمر والوسق ستون صاعا بصاع النبى عليه السلام وهو اربعة امداد وكل مد رطل وثلث رطل بالبغدادى عند ابى يوسف والشافعى والرطل مائة وثلاثون درهما وعند ابى حنيفة كل مد رطلا وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن وجاء ابو عقيل الانصارى بصاع من تمر وقال يا رسول الله بت ليلتى كلها اجر بالجرير على صاعين اما احدهما فامسكته لعيالى واما الآخر فاقرضته ربى فامره رسول الله ان ينثره فى الصدقات فطعن فيهم المنافقون وقالوا ما اعطى عبد الرحمن وعاصم الارياء وسمعة وان ابا عقيل جاء ليذكر بنفسه ويعطى من الصدقة باكثر مما جاء به وان الله لغنى عن صاع ابى عقيل فانزل الله هذه الآية { والذين لا يجدون الا جهدهم } عطف على المطوعين اى ويلمزون الذين لا يجدون الا طاقتهم من الصدقة.
قال الحدادى عابوا المكثر بالرياء والمقل بالاقلال يقال الجهد بالفتح المشقة والجهد بالضم الطاقة وقيل الجهد فى العمل والجهد فى القوة { فيسخرون منهم } عطف على يلمزون اى يستهزئون بهم والمراد بهم الفريق الاخير كابى عقيل { سخر الله منهم } اى جازاهم على سخريتهم فيكون تسمية جزاء السخرية سخرية من قبيل المشاكلة لوقوعه فى صحبة قوله فيسخرون منهم { ولهم } اى ثابت لهم { عذاب اليم } على كفرهم ونفاقهم

اى كه دارد نفاق اندر دل خار بادش خليده اندر حلق
هركه سازد نفاق بيشه خويش خوار كرددبنزد خالق وخلق

.قال الحدادى ولما نزلت هذه الآية اتى المنافقون الى رسول الله وقالوا يا رسول الله استغفر لنا فكان عليه السلام يستغفر لقوم منهم على ظاهر الاسلام من غير علم منه بنفاقهم وكان اذا مات احد منهم يسألون رسول الله الدعاء والاستغفار لميتهم فكان يستغفر لهم على انهم مسلمون فاعلمه الله انهم منافقون واخبر ان استغفاره لا ينفعهم فذلك قوله تعالى { إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم } خرج الكلام مخرج الامر ومعناه الشرط اى ان شئت استغفر لهم وان شئت لا تستغفر فالامران متساويان فى عدم النفع الذى هو المغفرة والرحمة { ان تستغفر لهم سبعين مرة } قوله مرة انتصب على المصدر اى سبعين استغفارة او على الظرف اى سبعين وقتا وتخصيص السبعين بالذكر لتأكيد نفى المغفرة لان الشئ اذا بولغ فى وصفه اكد بالسبع والسبعين وهذا كما يقول القائل لو سألتنى حاجتك سبعين مرة لم اقضها لا يريد انه اذا زاد على السبعين قضى حاجته فالمراد التكثير لا التحديد { فلن يغفر الله لهم ذلك } اى امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة فى الاستغفار ليس لعدم الاعتداد باستغفارك بل { بانهم } اى بسبب انهم { كفروا بالله ورسوله } اى كفرا متجاوزا عن الحد كما يلوح وصفهم بالفسق فى قوله تعالى { والله لا يهدى القوم الفاسقين } فان الفسق فى كل شئ عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده اى لا يهديهم هداية موصلة الى المقصد البتة لمخالفة ذلك للحكمة التى عليها يدور فلك التكوين والتشريع. واما الهداية بمعنى الدلالة على ما يوصل اليه فهى متحققة لا محالة ولكنهم بسوء اختيارهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا.
وفيه اشارة الى ان استغفار النبى عليه السلام لاحد من غير استغفاره لنفسه لا ينفعه فاليأس من المغفرة وعدم قبول استغفاره ليس لبخل من الله ولا لقصور فى النبى عليه الصلاة والسلام بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها كما قال المولى جلال الدين فى شرح الهياكل المحال لا يدخل تحت قدرة قادر ولا يلزم من ذلك النقص فى القادر بل النقص فى المحال حيث لا يصلح لتعلق القدرة انتهى ومنه يعرف معنى قول العرفى الشيرازى

ذات تو قادرست بايجاد هرمحال الا بآفريدن جون تو يكانه

وفى عبارته سوء ادب كما لا يخفى.
واعلم ان من كفرهم وفسقهم سخريتهم فى امر الصدقات ولو كان لهم ايمان واصلاح لبالغوا فى الانفاق وجدوا فى البذل كالمخلصين.
وفى التاويلات النجمية قلب المؤمن منور بالايمان وروحه متوجه الى الحق تعالى فالحق يؤيد روحه بتأييد نظر العناية وتوفيق العبودية فيسطع من الروح نور روحانى مؤيد بنور ربانى فتنبعث منه الخواطر الرحمانية الداعية الى الله تعالى باعمال موجبة للقربة من الفرائض والنوافل فتارة تكون الاعمال بدنية كالصوم والصلاة وتارة تكون تلك الاعمال مالية كالزكاة والصدقة فيتطوع بالصدقة فضلا عن الزكاة وفى الحديث
"ان النافلة هدية المؤمن الى ربه فليحسن احدكم هديته وليطيبها" وقلب المنافق مظلم بظلمات صفات النفس لعدم نور الايمان وروحه متوجه الى الدنيا وزخارفها بتبعية النفس الامارة بالسوء مطرود بالخذلان لان قرينه الشيطان فبتأثير الخذلان ومقارنة الشيطان يصعد من النفس ظلمة نفسانية تمنع القلب من قبول الدعوة واجابة الرسل واتباع الاوامر واجتناب النواهى بالصدق وتنبعث منه الخواطر الظلمانية النفسانية وبذلك يمتنع عن اداء الفرائض فضلا عن النوافل والتطوعات ويهزأ بمن يفعل ذلك -روى- ان داود عليه السلام سأل ربه ان يريه الميزان فاراه اياه فى المنام فلما رأى عظمته غشى عليه فلما افاق قال الهى من الذى يقدر ان يملأ كفته من الحسنات فقال يا داود انى اذا رضيت عن عبدى املأها بتمرة -وروى- ان الحسن مر به نخاس ومعه جارية جميلة فقال للنخاس أترضى فى ثمنها بدرهم او درهمين قال لا قال فاذهب فان الله يرضى فى الحور العين بالفلس والفلسين: قال السعدى قدس سره

بدنيا توانى كع عقبى خرى بخرجان من ورنه حسرت خورى

واعلم ان النوافل مقبولة بعد اداء الفرائض والا فهى من علامات اهل الهوى