التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
١
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
٢
-يونس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (عجباً) خبر كان، واسمها: (أن أوحينا)، ومن قرأ بالرفع فالأمر بالعكس، أو كان تامة، واللام متعلقة بعجباً، وهو مصدر للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم، يتوجهون نحوه بإنكارهم واستهزائهم.
قال في المغني: المصدر الذي ليس في تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه، على أن السعد قال في المطوّل: إن معمول المصدر إذا كان ظرفاً أو شبهة، الأظهر أنه جائز التقديم، قال تعالى:
{ { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } [الصافات: 102]، { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } [النور: 2] مثل هذا كثير في الكلام، وليس كل ما أول بشيء حكمُه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة الفعل؛ لأن له شأناً ليس لغيره؛ لتنزله من الشيء منزلة نفسه؛ لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها. هـ.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المجتبى المختار { تلك } الآيات التي تنزل عليك هي { آياتُ الكتاب الحكيم }، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شيء بكتاب آخر بعده، أو كلام حكيم. { أَكَانَ للناس } أي: كفار قريش وغيرهم { عَجَباً أن أوحينا إلى رجل منهم } ولم يكن من عظمائهم؟ والاستفهام للإنكار، والرد على من استبعد النبوة، أو تعجب من أن يبعث الله رجلاً من وسط الناس.
قيل: كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب. وهذا من فرط حماقتهم، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة.
هذا.. وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يكن يقْصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه، إلا في المال، وخفةُ الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك ـ أي خفافاً من المال ـ وقيل: تعجبوا من أنه بشراً رسولاً، كما سبق في سورة الأنعام. قاله البيضاوي.
ثم فسَّر الوحي المذكور فقال: { أن أنذر الناس } أي: أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي: خوفهم من غضب ربهم، { وبشّر الذين آمنوا }، عمم الإنذار، ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به، قاله البيضاوي.
أي: بشر المؤمنون بأنَّ { لهم قَدَمَ صدْقٍ عند ربهم } أي: سابقة ومنزلة رفيعة، سميت قدَماً لأن السبق يكون بها، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعْطى باليد، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي: أي: عمل صالح قدموه، وقال ابن عباس: السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. هـ. وقال ابن عطية: والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول: رجل صدقٍ ورجل سوْءٍ. هـ.
{ قال الكافرون إنَّ هذا } الكتاب، أو ما جاء به الرسول، { لسحر مبين } أي: بيَّن ظاهر، وقرأ ابن كثير والكوفيون: { لساحر }، على أن الإشارة إلى الرسول، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة، معجزة لهم عن المعارضة، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيراً لما ذكره قبلُ من تعجبهم، أويكون مستأنفاً.
الإشارة: تعجبُ الناس من أهل الخصوصية سُنة ماضية، فكما خفي عن أعين الكفار سر النبوة، خفي عن أعين الخفافيش سر الخصوصية، فلا يطلع عليها إلا من سبق له قدم صدق عند ربه، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية؛ فلم يدل عليها إلا من أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية.
قال في لطائف المنن: فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، وسمعت الشيخ أبا العباس رضي الله عنه يقول: معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإنَّ الله تعالى معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب؟، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
ثم فسّر عظمة ربوبيته، فقال: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ }.